الكتاب المقدس وعلم الفلك

الفصل السابق - عَوْن


لقد خلق اللهُ الإنسانَ بطريقة تجعله لا يجد إشباعاً كاملاً أو عميقاً في معزل عنه. وإذ يجد نفسه محبطاً كلياً بسبب الآثام والقساوات في هذه الحياة، فإن كاتب المزامير الذي يُدعى آساف دخل إلى مقدس الله، وهكذا اكتسب منظاراً جديداً كليةً إلى العالم (المزمور 73: 17). واختتم بالقول بهذه الكلمات الملهَمة "بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي وَبَعْدُ إلى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي. مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئاً فِي الأَرْضِ" (مز 73: 24- 25). إن قمة مأساة النشوئية الكونية هي أنها تتجاهل فعلياً الله نفسه الذي خلقنا لنجد تحقيق ذواتنا فيه وحده. إن المؤسسة العلمية المدنية، بنظرية البيغ بانغ (الانفجار الأعظم)[22]، قد رفضت عامدة متعمدةً المسيح "الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ" (كولوسي 2: 3). فبذكائهم الذي يتبجّحون به، أهمل الناس أو تجاهلوا ابن الله "الذي فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً". الذي، كما يؤكد الرسول بولس، "أَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ، الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ" (كولوسي 2: 9-10). فبالنسبة للمسيحيين، ليس الكون بلا هدف وليس بلا مغزى. والاتجاهات الكافية الوافية متوفرة. فنحن لسنا وحدنا (في هذا الكون).

ليس من طريقة منطقية للتوفيق بين النظرية النشوئية للكون والمنظار الإيماني المسيحي. فالإيمان المسيحي يفترض مقدّماً صحة وعصمة الكتاب المقدس. إن تطبيقاً صادقاً ومتماسكاً للمبادئ التفسيرية في تحليل روايات الكتاب المقدس عن المنشأ الأصلي (للكون) يدفع المرءَ إلى أن يصل إلى طريق مسدود في محاولة إجراء التوافق بينها وبين النظرية الكونية الأكثر انتشاراً في جيلنا. وللتأكيد، النشوئيون "الإيمانيون" يتحدثون كثيراً عن الله (أو "عن الإله")؛ ولكن من الواضح أنهم لم يسمعوا رسالة كلمته المكتوبة بوضوح.

خلافاً لفترة الخلق ذات الستة أيام الواردة في (تك 1) و(خروج 20)، على سبيل المثال، النشوئية الكونية بكل أشكالها الشائعة الرائجة حالياً (إلحادية، عقلانية، وإيمانية) تُصوّر عقلياً النجوم مشكّلة مئات ملايين السنين بعد الحدث الكوني الذي استُهل الكون به أولاً، والكواكب في نظامنا الشمسي التي ظهرت في وقت لاحق. كيف يمكن التوافق بين هذه وإعلان الله بأن كوكب الأرض قد خُلق قبل النجوم؟

إن النظرية النشوئية الكونية ترجئ ظهور الإنسان على الأرض إلى 20 مليار سنة على الأقل من خلال عمليات طبيعية لا هدف لها ظاهرياًُ قد سلكت نهجها. ولكنّ مدونات التكوين تصور الإنسان كملك حقيقي على الأرض منذ بدء تاريخ الأرض، فيمارس السيادة على كل الحيوانات، بما فيها تلك التي في أعماق البحار (تكوين 1: 26-28؛ قارن مع مزمور 8: 5-8)، خلال مدة ساعات من خلقها. حتى نجوم السماء سبقت الإنسان زمنياً بفاصل زمني وهو يومان فقط (تك 1: 19، 31؛ قارن مع خروج 20: 11)، إذ لم يكن فيها هدف مستقل للوجود. لقد خُلقت لأجل ابن الإنسان (كولوسي 1: 16) ولأجل أولئك الذين خُلقوا وتجدّدوا على صورته (1 كورنثوس 3: 21-23؛ كولوسي 3: 10). فهي لم تنتظر ملايين السنين لتنجز ما خُلقت لأجله، أعني به، أن تكون آيات للناس على حكمة الله الخلاقة (تك 1: 14؛ رو 1: 20). فقط عندما ينكر المرء شهادة التسلسل التاريخي للأحداث الواردة في سفر التكوين بوضوح يمكنه أن يتكلم بنظرية نشوئية "إيمانية".

قبل أربعة آلاف سنة مضت، سأل الله أيوب: "أيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ.... هَلْ تَرْبِطُ أَنْتَ عُقْدَ الثُّرَيَّا أَوْ تَفُكُّ رُبُطَ الْجَبَّارِ؟ أَتُخْرِجُ الْمَنَازِلَ فِي أَوْقَاتِهَا وَتَهْدِي النَّعْشَ مَعَ بَنَاتِهِ؟ لْ عَرَفْتَ سُنَنَ السَّمَاوَاتِ أَوْ جَعَلْتَ تَسَلُّطَهَا عَلَى الأَرْضِ؟" (أيوب 38: 4، 31- 33). وبتناقض مذهل مع فكر القرن الحادي والعشرين المتكبر والدنيوي، "قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ. فَمَنْ ذَا الَّذِي يُخْفِي الْقَضَاءَ بِلاَ مَعْرِفَةٍ! وَلَكِنِّي قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ. بِعَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا.اِسْمَعِ الآنَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ. أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذَلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ" (أيوب 42: 2- 6).

إن خيارنا الأساسي والنهائي هو إما أن نؤمن بأن الكون هو نتاج صدفة عشوائية لا مغزى منها، أو أن الله الحي قد خلقه شخصياً. ولكن هذه الالتزامات الإيمانية البديلة ليست ولا يمكن أن تكون خيارات متساوية للناس الذين يحملون صورة الله مختومة بشكل يتعذر محوه على أعمق أعماق كيانهم. إن الله الخالق، ببساطة، لن يسمح بأن يُقارَنَ مع أي "إله" آخر، بما فيها الزمن/الصدفة النشوئية: "فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي فَأُسَاوِيهِ؟ يَقُولُ الْقُدُّوسُ. ارْفَعُوا إلى الْعَلاَءِ عُيُونَكُمْ وَانْظُرُوا مَنْ خَلَقَ هَذِهِ؟ مَنِ الَّذِي يُخْرِجُ بِعَدَدٍ جُنْدَهَا يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ؟ لِكَثْرَةِ الْقُوَّةِ وَكَوْنِهِ شَدِيدَ الْقُدْرَةِ لاَ يُفْقَدُ أَحَدٌ..... تَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ لأَنِّي أَنَا اللَّهُ وَلَيْسَ آخَرَ" (أشعياء 40: 25- 26؛ 45: 22).

 

[22]- نظرية البيغ بانغ (الانفجار الأعظم): (big-bang): نظرية تقول أن أصل الكون هو انفجار مقدار صغير من مادة شديدة الكثافة. يدعم أصحاب هذه النظرية رأيهم بالاستناد إلى أن الكون لا يزال يتمدد. [فريق الترجمة].








الفصل التالي - الكتاب المقدس وعلم الفلك

God Rules.NET
Search 100+ volumes of books at one time.