الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية: تبرير، (الـ)


المسيحي مؤشر موسوعة إلكترونية

1) الألفاظ. التبرير هو إعلان البرّ أي إعلان لا ذنب من اعتُبر مذنبًا. هي لفظة قانونيّة في الدرجة الأولى. وبما أنّ التبرير له دومًا في الكتاب المقدّس بُعد دينيّ، يجب أن نحدّد أنّ اللفظة تُستعمل لتدلّ على موقع الإنسان الذي هو خاطئ، أمام الله البارّ، هذا الإله الذي يكره الشرّ، ولكنّه يريد أن يتحرّر الإنسانُ خليقتُه من هذه الخطيئة التي تقيّده وتُبعده عن ربّه. وهكذا نقدر أن نحدّد التبرير قبولَ الإنسان لنعمة بها يمنحه الله مغفرة ذنوبه ومصالحته معه. وتدلّ اللفظة على أنّ الإنسان المذنب يتقبّل برّ الله فيصبح بارًّا بفعل شاءته نعمة الله. فيحصل على دينونة لصالحه مع أنّ هذا ليس أمرًا عاديًّا، ولا يمكن الإنسان أن يتوقّعه.

نشير هنا إلى أنّ البرّ يقابل العبري "ص د ق" أو "ص د ق ه". واليونانيّ "ديكايوسيني". أما برّر، جعله بارًّا، حلّه من خطيئته، فهي الرباعي من "ص د ق" وفي اليونانيّة : ديكايوو. ويستعمل اليوناني أيضًا كاسم "ديكايوسيس". ثمّ "ديكايوما" في معنى إحقاق الحق، دينونة، حكم.

2) اللاهوت. إذا أردنا أن ندرك بُعد التبرير في الكتاب المقدّس، ننطلق من برّ الله ونتذكّر أنّ هذا البرّ ليس صفة ينطبع بها، بل هو يتضمّن إرادة (من قبل الله) بأن يعمل من أجل البشر. ليس برّ الله برًّا "يمتلكه" الله لذاته، بل برّ يستخدمه لأجلنا فتصل مفاعيله إلينا. إذن، إن سُمِّيّ الله "البارّ"، فلأنّه أول بارّ من أجلنا. يريد منّا أن ندخل في مشروعه، في قصده، من أجل العالم.

إذا كان هذا صحيحًا، أي إن كان هناك مخطّط برّ من قبل الله، نستطيع إن نحن وقفنا عند المفهوم البشريّ، أن نميّز في البيبليا ثلاث مراحل :

(أ) مراحل التبرير. ^ أولاً : بما أنّ الخطيئة التي هي تمرّد على مشيئة الله، تسود العالم، قرّر الله أن يحرّر الإنسان من العبوديّة ومن لعنة الخطيئة. هذا هو السبب (في نظر المسيحيّ) الذي لأجله أرسل الله ابنه الذي يُتمّ فداء الإنسان من يد الشرير. هذا ما يُسمّى سرُّ الفداء. فالله، بالمسيح، يُظهر في نعمته، برّه الذي يتلاقى مع حبّه. به يعطي الله حقًّا برّه للإنسان.

ثانيًا : يليق بالإنسان أن يتقبّل في ذاته نعمة الفداء، والطريقة التي بها يُدرك نداءه وخلاصه هي التبرير بحصر المعنى. وهكذا يكون للمؤمن البرّ الذي يُقدَّم له. بما أنّه يؤمن، فهو يدخل في مخطّط الله ويعلن اتفاقه مع الله من أجل تحقيق خلاصه.

ثالثًا : وتحصل حركة أخيرة في الإنسان الذي تأكّد الآن من خلاصه. فالذي يعرف أنّه تبرّر بالمسيح يحسّ بنفسه مدفوعًا ليعبّر بدوره عن امتنانه وحبّه بأعمال تبرهن على أنّه ارتبط بمشروع الله. هذا ما يُسمّى التقديس. والتقديس يعني أنّ المؤمن انفتح على قداسة الحياة. بهذه الطريقة يكتمل عمل خلاص الله.

توقّفنا فقط هنا عند التبرير، ونحن عارفون أنّ هذه الحركات الثلاث تتداخل من وجهة الله فتكوّن وحدة واحدة. فالله "يفتدي" لكي "يبرّر". و"يبرّر" لكي يقدّس. فهدفه واحد. وهو يفعل في الإنسان بحيث يخلّصه. هنا يُطرح سؤال : "كيف" يبرّر الإنسانُ الذي هو في طبعه خاطئ؟ كان لابارًّا فصار بارًّا! أو أن التبرير هو مجرّد إعلان برّ : بما أنّ الإنسان خاطئ ويظلّ خاطئًا، يعامله الله "وكأنّه" حقًّا مبرَّر مع أنّه يعرف أنّه ليس بمبرَّر. ما يدفعنا إلى هذا الحلّ هو عبارة تك 15 : 6 التي استعادها بولس في رو 4 : 3؛ غل 3 : 6 : "آمن ابرام بالربّ فبرّره الرب لإيمانه" (أي جاء حكم يُعلن له). أو أن التبرير يعني أنّ المذنب صار بارًّا حقًّا بتحوّل جذريّ. وهكذا يكون موقع "المبرَّر" خارج عالم الخطيئة. فالفعل "برّر" يعني : جعله بارًّا، نظر إليه واعتبره أنّه بار. هذا هو المعنى العاديّ لفعل "ديكايوو" اليونانيّ. ونزيد أنّ بولس الذي يتكلّم مرارًا عن التبرير يقف على المستوى القانونيّ، مستوى الدينونة والحكم، الذي يتلفّظ به الله تجاه الإنسان الخاطئ.

إذن، تصبح المسألة دقيقة إن نحن وقفنا فقط على المستوى القانونيّ. فعلى مستوى البرّ البشريّ، هناك اختلاف كبير بين وضع مذنب اعتُبر بريئًا، أو عُفيَ عنه. فإذا كان من اعتُبر مذنبًا قد ظهرت براءته في نهاية المحاكمة، فهو ليس فقط حرًّا، بل وبرِّئت ساحته. فلا خطيئة ننسبها إليه بعد. أمّا الذي "شمله العفو" مع أنّه ظهر في البدء مذنبًا، فهو يبقى مذنبًا. ولكن تدخّلت نعمة (عفو ) من الخارج فحوّلت العقاب أو ألغته. في مثل هذا السياق، نستطيع أن نجادل حول مدلول "التبرير" : هل هو إقرار بأنّه لم تكن هناك خطيئة؟ هل هو إعلان غفران لا يزيل شيئًا من الخطيئة؟ ولكن تماهي هذا التعارض مع حكم قانونيّ، يطرح سؤالاً. ففي اللاهوت نعتبر أنّ المقابلة مع وضع قانونيّ، غير دقيق ويشوّه السؤال. فبرّ الله الذي يظلّ سريًّا على الدوام، يقدَّم للإنسان لأن الله يغفر له. مُحيت خطيئته. نُسيت. "سُترت" كما يقول المزمور. ونستطيع أن نقول، انطلاقًا من البيبليا، إنّ إعلان الغفران هو تحقيق الغفران، وهما لا ينفصلان. فالخاطئ الذي غُفر له بنعمة من يسوع المسيح، يظلّ في الوقت عينه خاطئًا لا جديرًا بالغفران، وإنسانًا غُفر له لأنّه وُلد حقًّا من جديد في أعمق كيانه. التبرير عمل إلهي لا يُقابَل مع أعمال البشر. وهو يتمّ بحيث إنّ الإنسان المبرّر يظلّ دومًا أمام الله "ذاك الخاطئ وذاك البارّ".

3) الكتاب المقدّس. (أ) العهد القديم. يستعمل العهد القديم مرارًا فعل "برّر" ليدلّ على ما يفعله القاضي الذي يريد أن يكون "بارًّا"، "عادلاً". عليه أن يلفظ حُكمًا لصالح البريء. يبرّئه أمام المحكمة، ويحكم على الظالم (تث 25 : 1). بل على القاضي الصالح حسب سي 42 : 7 أن يحاكم المذنبين حسب قواعد القانون، ويتيح له أن "يتبرّر"، أن يدلّ على براءته. والقاضي الرديء هو الذي يحكم على البارّ، البريء، ويعفو عن المذنب (أم 17 : 15)، خصوصًا إذا ترك الناس يشترونه بالهدايا والرشوة (إش 5 : 23).

هناك نصّان يتجاوزان المستوى القانونيّ المحض، فيتحدّثان عن البرّ الذي يأتي من الله وكما يريده الله من أجل جميع البشر. نقرأ في دا 12 : 3 : "والذين هدوا كثيرًا من الناس إلى الحق (أو الذين برّروا الكثيرين) يضيئون كالكواكب". في هذه الحالة، الحديث هو عن برّ الله الذي هو موضوع تعليم أو عطيّة يمنحها إنسان إلى آخر. وفي إش 53 : 11 (نشيد عبد الربّ المتألّم) : "وبوداعته يبرّر عبدي الصّدّيق (البار) الكثيرين من الناس". وهكذا نال عبد يهوه مهمّة خاصة هي أن يمنح البرّ لأناس عديدين (لا يقول النص إن كانوا استحقّوها أم لا) لأنّ فيه برّ الله بالذات. لهذا حمل خطايا البشر.

(ب) العهد الجديد. ^ أولاً : الأناجيل الإزائيّة. قلّما تتحدّث الأناجيل الإزائيّة عن التبرير. عند مت 12 : 37، تصوّر الدينونةُ الأخيرة التي فيها سيتجلّى برُّ الله الأخير، مثل برّ البشر (مثل عدالة البشر). فيعلن يسوع : "بكلامك تبرَّر وبكلامك تدان". وهناك مثل الفريسيّ والعشّار (جابي الضرائب). يظنّ بعض الناس أنّهم أبرار. هم يبرّرون نفوسهم بنفوسهم (لو 18 : 9). فإليهم يتوجّه المثل. وينتهي الخبر بقول يعلن أنّ العشّار عاد من الهيكل إلى بيته مبرّرًا. فبرّ الله ليس هو حيث يظنّه الناس، ليس "جزاء" لأعمال التقوى (نمنّن بها الله). فالبرُّ يُعطى مجانًا، لأنّ الربّ ينظر إلى القلب وإلى النوايا. هو نعمة لمن لم يفعل شيئًا لكي يحصل عليه، فلا يرى كيف يكون ذلك ممكنًا.

ثانيًا : الرسائل البولسيّة. بولس هو الذي شدّد بشكل خاص على التبرير في علاقة الله مع البشر. ونحن نفهم ذلك حين نعلم الحسّ المرهف والمأساويّ الذي شعر به بولس تجاه قوّة الخطيئة. فالخطيئة تجتاح العالم كلّه بعنف كبير لا يُفلت منه أحد (رو 1). وهكذا يبدو الإنسان ذاهبًا إلى الهلاك، فلا يستطيع أن يفعل شيئًا ليوقف موج الخراب.

وعلم الرسول أنّ الفريسيّين في زمانه علّموا أنّ الإنسان يستطيع بذاته أن يقاوم موج الشرّ. وهذا ما علّمه هو أيضًا، فقال كما قال عدد من اليهود : نجعل ثقتنا في شريعة الله التي أعطيت لآبائنا بواسطة موسى. فالمؤمن التقيّ يقدر أن يصل إلى هذا البرّ، برّ الشريعة : "احفظوا فرائضي وأحكامي، فمن عمل بها يحيا، أنا الرب" (لا 18 : 5؛ رج رو 10 : 5؛ غل 3 : 12). هذا يعني أنّ المؤمن ينال برّ الله وخلاصه بطاعته لوصايا الله.

ورأى بولس أن هذا يوافق في المبدأ كلام الله : "بل الذين يعملون بأحكام الشريعة هم الذين يتبرَّرون" (رو 2 : 13). فالله لا يمكنه إلاّ أن يرضى عن ذاك الذي يخضع بكلّ قلبه، مجاهدًا في هذا السبيل جهادات خاصّة. هو حقًّا "مبرّر". توافقَ بولسُ مع هذا الرأي، فقال إنّه يجب بالضرورة أن نحصل على البرّ لنخرج من عبوديّة الخطيئة، إنّه يجب أن نبلغ إلى التبرير. والله يُلزم نفسه تجاه الإنسان في نعمته القديرة، ويريد منه أن يصبح بارًا. هذا الهدف الإلهيّ قدَّمه بولس في رو 8 : 30، في أربع مراحل : ابن الله في حبّه قد أعدّ الإنسان مسبقًا، ثمّ دعاه، ثمّ برّره، وأخيرًا مجّده.

وبرزت ثلاث وقائع فرضت نفسها على فكر الرسول. (1) لا يُمكن أن يمارس الإنسانُ ممارسة دقيقة كل فرائض الشريعة. هذا ما اختبره بولس نفسه. فكتب في رو 2 : 17-25 مبيِّنًا أنّ أفضل اليهود لم يستطيعوا ذلك. (2) وتدخّل مجيء ابن الإنسان وسط البشر. فأجرى فداء بموته وقيامته. وهو كالفادي قد نال لنا التبرير. فالآن تبرّرنا بيسوع المسيح (رو 3 : 24؛ 4 : 25؛ 5 : 9، 16؛ أع 13 : 39؛ 1 كور 6 : 11؛ تي 3 : 7). (3) إنّ الفداء الذي أجراه المسيح يتضمّن بالضرورة تعلّق الإنسان به. فبالإيمان بالمسيح، يدركنا التبريرُ فننال الخلاص حقًا (رو 3 : 26، 28؛ 5 : 1؛ 10 : 4؛ غل 2 : 16؛ 3 : 8-24).

أمّا مثال المبرَّر بالإيمان فهو ابراهيم الذي كان رجل الله في العهد القديم، الذي كان أوّل من عرف التبرير لأنّه "آمن" بمواعيد الله (تك 15 : 6؛ رو 4 : 3؛ غل 3 : 6؛ "آمن إبراهيم بكلام الله، فبرره لإيمانه"). وكما أنّ ابراهيم سبق في الزمن موسى، سبق الإيمانُ أعمالَ الشريعة. ليس إيماننا هو الذي يخلّصنا (عندئذٍ يكون الإيمان عملاً من أعمال الشريعة)، بل المسيح. ولكنّنا ننال بالإيمان تأكيد تبريرنا الذي يأتي من الله. فموت المسيح هو العنصر المؤسِّس للإيمان. إذا آمنّا أنّه مات لأجلنا، تبرّرنا حقًّا. واجتمعنا به في موته وقيامته.

ثالثًا : رسالة يعقوب. تبدو لغة يعقوب مختلفة عن لغة بولس. بل هو يعارضه على مستوى الألفاظ، لأنّه كتب أكثر من مرّة أنّ الأعمال تبرّر الإنسان. لقد تبرَّر ابراهيم بأعماله (2 : 21). وكذلك نقول عن راحاب الزانية (2 : 25). كلّ إنسان يبرّر بأعماله، لا بالإيمان (2 : 24). ولكن يجب أن نتنبّه إلى الطريقة التي بها يتكلّم يعقوب عن الأعمال وعن الإيمان. فما يقوله في ف 2 هو واضح وإيجابيّ : "الإيمان بغير الأعمال يكون في حدّ ذاته ميتًأ" (2 : 17). "أرني كيف يكون إيمانك من غير أعمال، وأنا أريك كيف يكون إيماني بأعمالي" (2 : 18). "الإيمان عقيم بدون الأعمال" (2 : 20).

وهكذا يرى يعقوب الأهميّة الرئيسيّة للإيمان. ولكن لكي يتجلّى هذا الإيمان، ولكي نتأكد أنه هنا، يجب أن نبرهن عنه الأعمال. فالأعمال تتيح لنا أن نرى أنّ الإيمان ليس لفظة فارغة. ووضعُ ابراهيم من هذا القبيل وضع مميّز (2 : 21-23) : برِّر ابراهيم بالأعمال لأنّه قدّم اسحق ذبيحة (تك 22)، وهذه التقدمة هي حقًا "عمل". فبيّن يعقوب أنّ الإيمان "يعمل مع الأعمال" وأنّ "الإيمان يكمل بالأعمال". وهذا ما يتوافق كل الموافقة مع ما نقرأ في تك 15 : 6 : "آمن ابرام بالرب، فبرره الرب لإيمانه"، ونال اسم "خليل الله". إذن، بالايمان "تبرّر" ابراهيم واعتبر خليل الله. غير أنّ ابراهيم عرف أن يبيّن أنّ إيمانه ليس عاطفة وحسب. إيمانه حقيقيّ بسبب طاعته لله، والطاعة هي "عمل". لا يذهب يعقوب بعيدًا في التعارض بين الإيمان والأعمال. بل يهاجم الذين يقولون "عندي إيمان" ويظلّون على مستوى القول والكلام. لا ينكر يعقوب أبدًا ضرورة الإيمان من أجل الخلاص. بل هو يريد أن يكتمل الإيمان بالأعمال التي هي ضروريّةً لتدلّ على متانة الإيمان. هو لا يتعارض مع بولس، بل يختلف عنه في طريقة الكلام.







الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية

God Rules.NET
Search 100+ volumes of books at one time.