الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية: رؤيا


المسيحي مؤشر موسوعة إلكترونية

تعود كلمة رؤيا إلى فعل رأى. وهذه الرؤية لا تتمّ بالعين المجرّدة، بل ترتفع إلى مستوى المخيّلة في الرؤى المنحولة، وإلى مستوى الايمان في الكتب القانونيّة. وكلّها مطبوعة بالفن الجلياني (جلا أي كشف) الذي ينطلق من الرموز والصور ليحمل وحيًا عن مصير البشريّة.

هناك رؤى ترتبط بالعالم اليهودي وأخرى بالعالم المسيحيّ. تتوزّع الفئة الأولى على احد عشر كتابًا : رؤيا آدم، رؤيا ابراهيم، رؤيا اشعيا أو صعود اشعيا، رؤيا إيليا، رؤيا باروك السريانية، رؤيا حزقيال، رؤيا دانيال، رؤيا صفنيا، رؤيا عزرا اليونانيّة، رؤيا نوح. أما الرؤى المرتبطة بالعالم المسيحيّ، فتتوزّع على ستة كتب : رؤيا استفانوس، رؤيا بطرس، رؤيا بولس، رؤيا يعقوب، رؤيا يوحنا المنحولة. ويزاد عليها منحولة (أبوكريفون) يوحنا.

رؤى منحولة نُسبت رؤى منحولة إلى أشخاص من العهد الجديد.

1) رؤيا إشعيا. نجد فيها رؤيا مسيحيّة تورد تنقّلات النبيّ عبر السماوات السبع. سنعود إليها.

2) رؤيا بطرس. تعود إلى القرن الثاني. تصوّر مطولا الدينونة العامّة وتستند إلى مر 13 :1ي؛ 2بط 2 :1ي. وهناك رؤيا أخرى بهذا الاسم وُجدت في نجع حمادي. سنعود إليها.

3) رؤيا بولس. تصوّر السفر إلى الفردوس انطلاقًا من 2كور 12 :3. الهمت دانتي الشاعر الإيطالي في ملحمته الإلهيّة. اكتُشفت في القرن التاسع عشر.

4) كتابان اسمهما رؤيا يوحنا يعودان إلى القرن الثامن والقرن التاسع.

5) رؤيا توما. وصلت إلينا في اللاتينيّة.

6) رؤيا استفانوس. تخبر كيف وُجدت بقايا هذا القدّيس. دُوّنت حوالي سنة 415.

7) رؤيا زكريا، والد يوحنا المعمدان.

8) رؤيا برتولماوس.

9) رؤيا العذراء (كتابان) فيها تتوسّل العذراء من أجل الذاهبين إلى الهلاك (القرنان الثامن والتاسع).

رؤى يهوديّة

1) من القرن الثاني ق.م. رؤى أخنوخ، اليوبيلات والمسمّاة سابقًا رؤيا موسى، وصيّات الآباء الاثني عشر.

2) من القرن الأوّل ق.م. مزامير سليمان، الأقوال السيبليّة.

3) من القرن الأول ب.م. صعود موسى، أخنوخ السلافي أو كتاب أسرار أخنوخ، عزرا الرابع. رؤيا باروك السريانيّة، رؤيا ابراهيم، رؤيا موسى (حياة آدم وحواء)، رؤيا حزقيال.

رؤيا، (سفر الـ)

أولاً : المضمون : الرؤيا هي الكتاب النبويّ الوحيد في العهد الجديد. إنّها كشْف يتعلّق بالحدث الاسكاتولوجي وجواب لوعد يسوع، كما في يو 16 :13-14. إنّها تبيّن أنّ الحياة المسيحيّة موجّهة بطبيعتها نحو الانتصار الاسكاتولوجي. فالمسيح بموته وقيامته وصعوده قد جُعل الديّان في نهاية الأزمنة، وهو واقف على الباب (3 :20). ولهذا يكون لكلّ مرحلة من مراحل تاريخ الكنيسة وُجهة اسكاتولوجيّة. نُفي الرائي إلى جزيرة بطمس (1 :9) من أجل كلمة الله التي يتضمّنها إنجيل يسوع المسيح. بدأ يعلن لكنائس آسية الصغرى السبع (إنّها تمثّل كلّ الكنائس) دينونة الله على سلوكها (1 :19). بعد هذا، عرض في رؤى رسمها بلغة الصور التقليديّة المعروفة في العهد القديم، النواميس العامّة التي تسود تاريخ العالم حتى نهايته. أراد أن يكتب كتاب تعزية وتشجيع لكلّ الذين يقاسون مثله الاضطهاد من أجل الإيمان. أراد أن يحضَّهم على الثبات حتى النصر النهائيّ. فملكوت الله والحمل مؤسّس وثابت، ولكن التلاميذ لم يبلغوا النهاية التي وُعدوا بها.

ثانيًا : تصميم سفر الرؤيا. بعد المقدّمة (1 :1-3) والتوقيع والبركة (1 :4-8) نجد الأقسام التالية :

1) الرؤية الأولى ومهمّة نقل حكم الديّان الاسكاتولوجي (1 :9-17) إلى كنائس آسية السبع (ف 1-3). يتضمّن هذا الحكم التهانيّ والتوبيخات، الوعود والتهديدات.

2) القسم النبويّ (4 :1-22 :5) وفيه ثلاث لوحات.

اللوحة الأولى (4 :1-11 :15أ) : دراما الحرب الأخيرة التي تعدُّ الطريق للنهاية. بعد الرؤية الأولى في غرفة العرش (4 :1-11)، نجد رؤية الختوم السبعة (5 :1-8 :1). يُطلب من الحمل أن يفضّ الختوم. وحين يفضّ الختوم الأربعة الأولى تهجم الحرب والثورة الداخليّة والجوع والموت. وفي الختم الخامس، نسمع صراخ الشهداء الذين يطلبون من الله أن ينتقم لدمائهم. وفي الختم السادس يتزعزع الكون. وكان لا بدّ أن تكون الدينونة في الختم السابع، ولكن إسرائيل الحقيقيّ تأكّد أنّه سينجو كلّه ولن يصيبه شرّ من أجل التمجيد الاسكاتولوجي. بعد هذا حلّ صمت، ولكن الدينونة الأخيرة لم تحلّ بعد. وجاءت رؤية الأبواق السبعة (8 :7-11 :5 أ) بواسطة ملائكة يقدّمون صلوات القدّيسين كذبيحة بخور (8 :2-5). وحملت الأبواق الأربعة الأولى تقلّبات كونيّة (على الأرض، في البحر، في الأنهر والينابيع، في الكواكب : 8 :7-12). وأعلنت الأبواق التالية كوارث : حمل الأوّل هجمة جراد جهنّميّة. والبوق الثاني جيشًا من الفرسان الأشرار (8 :13-19 :21). وقبل أن يُنفخ في البوق الأخير، قاس النبيّ الهيكل (أي الكنيسة) ليحميه، وقُتل الشاهدان وقاما ليُرفعا إلى السماء. وذُكر البوق الأخير (10 :1-11 :15أ).

اللوحة الثانية من المعركة الأخيرة (11 :15ب-20 :15) بدأت أيضًا برؤية سماويّة وبأناشيد ظفر موضوعها مُلك الله العتيد بواسطة المسيح (11 :15ب، 19). ثمّ اصطفَّ الجيشان للمعركة : المرأة (شعب الله) والتنين (الشيطان) مع محازبيه الأرضيّين، وحش البحر (القوّة العالميّة) ووحش الأرض (الأنبياء الكذبة) (ف 12-13). وأخيرًا الحمل مع 144000 مختار (14 :1-5). وأعلنت الدينونةُ الأخيرة وصوِّرت برمز الحصاد والقطاف (14 :6-20). وتواصلت الصورة برؤية الكوؤوس السبع (15 :1-16 :21). سبّبت الأربعُ الأولى غضبَ الله على الأرض والبحر والأنهر والينابيع والكواكب. والكأس الخامسة هزَّت عرش الوحش. والسادسة جفّفت الفرات بحيث استطاع ملوك الشرق أن يصعدوا على هرمجدون. وحملت الكأس السابعة زلزلة كونيّة. بعد هذه المقدّمة، وُضعت القوى المعادية وجهًا لوجه : بابل (القوّة الكونيّة 17 :1-19 :10)، المسيح على حصان أبيض تحيط به قوس السماء (19 :11-18). سُجنت القوى المعادية لله (19 :19-18)، وبدأت آخر مراحل الكنيسة على الأرض (مُلك يدوم ألف سنة : 20 :1-6). وانتهت هذه المرحلة بالمعركة الأخيرة التي فيها طُرح الشيطان، جوج وماجوج، في بحيرة النار (20 :7-10). ثمّ قام جميع الاموات للدينونة الأخيرة (20 :11-35).

اللوحة الثالثة : بعد دمار العالم القديم، نزلت على الأرض أورشليم السماويّة بشكل سماء جديدة وأرض جديدة (21 :1-22 :5).

3) الخاتمة : تأكيد على الحقيقة بفم الملاك وبفم يسوع نفسه (22 :6-20 أ). صلاة الانتظار تتلفّظ بها الجماعة (22 :20ب)، البركة الأخيرة (22 :21).

ثالثًا : الفنّ الأدبيّ. ينتمي سفر الرؤيا إلى الفن الجلياني الذي انتشر انتشارًا واسعًا في العالم اليهوديّ. يهتمّ هذا الفنّ بنهاية هذا العالم وتدشين العالم الآتي. هو يستعيد أفكار حزقيال وزكريا ويوئيل ودانيال وصورهم وأسلوبهم. ولكن سفر الرؤيا يتميّز بطابعه الشخصيّ. فالكاتب لا يورد بوضوح أيّ نصّ كتابي. كما أنّه فرض على العناصر التقليديّة فكرته المسيحيّة الخاصّة التي ترتبط بتاريخ الخلاص الذي حمله المسيح. بهذه الطريقة أعطى سفر الرؤيا رموزَ التقليد مدلَولها المسيحيّ. تحدّث بعضهم عن تأثير ميتولوجي وأسترولوجي. ولكن لا فائدة من الحديث عن هذا التأثير. وقال آخرون بتأثير الرؤى المنحولة على سفر الرؤيا. الرأي صحيح بقدر ما انتشرت في الشعب مواضيعُ العهد القديم وصورُه ورموزُه. فقد يكون للرمز معان عديدة وقد نستفيد من الرموز العديدة لنعبّر عن الفكرة عينها. فلا يحاول قارئ سفر الرؤيا أن يتصوّر رؤيا يوحنا. إنّه لم يرها، بل هو ينقل الوحي الإلهيّ في لغة رمزيّة. ونحن نسعى لنفهم مباشرة مضمون هذا الوحي عبر النقل الرمزي. بُني سفر الرؤيا حسب رسمة محدّدة (مثلاً : الرؤية السماويّة الأولى، رؤى الأختام السبعة، الأبواق السبعة، الكؤوس السبع حسب الرسمة 43). فيجب أن لا نرى في الرؤى تسلسل فترات تاريخيّة. إنّها تمثّل الواقع عينه في صور مختلفة. ويلجأ الكاتب مرارًا إلى وسائل أدبيّة كالتناقض والتنسيق والاستعادة ورمزيّة الأرقام. لغة الرؤيا لغة يونانيّة فيها الكثير من التعابير الساميّة. وقد تألّف السفر من وحدات كبيرة وصغيرة مبنيّة حسب الرسمة عينها. مجموع السفر مهيب ورفيع. إنّه ملحمة الرجاء المسيحيّ. إنّه نشيد ظفر الكنيسة المضطهدة. حاول الشرّاح أن يجدوا في سفر الرؤيا عدّة طبقات يهوديّة أو مسيحيّة أو مزيجًا من وثائق قديمة أو مؤلّفًا من كتابين. ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل.

رابعًا : أصل الرؤيا

1) يسمّى الكاتب يوحنا (1 :1، 4، 9؛ 22 :8). ومع أنّه لا يسمّي نفسه رسولاً، فالتقليد يتّفق منذ يوستينوس (القرن الثاني) حتى القرن الثالث على القول إنّ يوحنا صاحب الرؤيا هو الرسول. أمّا ديونيسيوس الاسكندراني فقد رأى اختلافًا في الأسلوب والفكر والمفردات، فقال إنّ الرؤيا هي عمل يوحنا آخر ليس الرسول. فشكوك هذا الأسقف وتجاوزات تبّاع الألفيّة (الفا سنة) جعلت كيرلّس الأورشليميّ وغريغوريوس النزيانزي ومدرسة أنطاكية يرفضون أن يعتبروا سفر الرؤيا في عداد الأسفار القانونيّة. أخذت كنيسة مصر بسفر الرؤيا ورفضته كنيسة أنطاكية. وأخذت به كنيسة أرمينيا منذ القرن الثاني عشر. وكانت اعتراضات عقائديّة وتأويليّة عاد إليها النقّاد الحديثون المسمّون عقلانيّون. وهكذا لم يتمّ الاتّفاق على هويّة الذي كتب سفر الرؤيا. ولكن النسبة إلى الرسول أخذت تتقدّم في الأوساط العلميّة وتفرض نفسها. الكاتب يهوديّ صار مسيحيًّا فاستعاد المواضيع اليهوديّة في اتّجاه مسيحيّ. الكاتب شخص ينعم بسلطة كبيرة في آسية الصغرى، بعد موت بولس الرسول. فمن يكون هذا الكاتب إلاّ يوحنا الرسول؟ ويعمل الشرّاح اليوم على إبراز التشابهات بين سفر الرؤيا وإنجيل يوحنا ورسائله لا التشديد على الاختلافات. أما نحن فنعتبر أن هذا السفر دوّن في "المدرسة اليوحناويّة"، ولا نحاول أن نكتشف الشخص الذي كتبه. فهذا الكتاب هو في النهاية نتاج الكنيسة ولا سيّما في أفسس.

2) متى دوّن سفر الرؤيا؟ يتناقش الشرّاح. قال التقليد القديم : في نهاية عهد دوميسيانس (81-96) أي نحو سنة 94-95. وهذا أمر معقول. فالمسيحيّة انتشرت في كنائس آسية الصغرى بحيث إنّ الحماس الأوّل خبا. ثمّ إنّ الكتاب لم يدوّن خلال الاضطهاد الأوّل، في أيام نيرون مثلاً (6 :9-11، 17 :6). وأخيرًا ينتظر الكاتب أن يمتدّ الاضطهاد إلى آسية الصغرى، وهذا كان أمرًا ممكنًا في أيام دوميسيانس، أوّل إمبراطور طلب أن يؤلَّه وهو حي (13 :14-17؛ 14 :9-11). ولكن بما أنّ التلميحات إلى الأحداث المعاصرة ليست أكيدة أو نستطيع أن نعتبرها موضوعًا يعود إلى الماضي (13 :18)، يجب أن نتحلّى بالفطنة إذا أردنا أن نحدّد زمن تأليف الرؤيا راجعين إلى أحداث التاريخ. فإذا اعتبرنا أن رؤ دوِّن حوالي سنة 95، يكون عاد إلى ما حدث من اضطهاد الكنيسة سنة 64-67، على أيام نيرون (موت بطرس وبولس)، فقرأ فيها عون الله وأمانته اللذين تحتاج إليهما الكنيسة في أيامه. بل عاد إلى العهد القديم مع سفر الخروج الذي هو خلاص شعب من الشعوب من الضيق ليبقى أمينًا لربه.

خامسًا : التفسير. في القرون الوسطى رأى الشرّاح في سفر الرؤيا نبوءة تنطبق على تاريخ العالم أو تاريخ الكنيسة. ولكن تخلّى الشرّاح اليوم عن هذا التفسير. أمّا التأويل العلميّ الحديث فاحتفظ بثلاثة تفاسير : التفسير الاسكاتولوجي، التفسير التاريخي (تلميح إلى أحداث معاصرة للكاتب)، التفسير بتاريخ التقليد. كلّ تفسير يحمل عنصرًا من الحقيقة. يريد سفر الرؤيا أن يقول إنّ الاضطهادات هي مقدّمة النصر النهائيّ. فديّان نهاية الأزمنة (الحمل المذبوح والممجّد) هو الصورة المركزيّة في الكتاب. ولكن هذا لا يمنع من العودة إلى الأحداث المعاصرة للكاتب، مع أن قيمتها تبقى رمزيّة (فلا نحاول أن نطبّقها على واقعنا اليوم تطبيقًا حرفيًّا). وعاد صاحب سفر الرؤيا إلى التقاليد القديمة يستقي منها صوره. ولكن يبقى الرجوع إلى العهد القديم هو الأهمّ. الله تكلّم في الماضي وها هو يوحنا الرسول يعود إلى هذا الماضي فيحدّث الكنيسة في حاضرها (تتوجّه النبوءة إلى المؤمن اليوم لأنّها كلمة الله التي تصل إلينا اليوم) ويهيّئها للمستقبل زارعًا في قلبها الرجاء والثقة بأمانة الله التي لا تخيب.

سادسًا : السياق التاريخي. يحتفل ف 12 بهزيمة إبليس : طُرد من السماء، ونزل على الأرض لكي يضطهد المسيحيين. فلجأ إلى معاونيه الوحشين اللذين يصوّرهما ف 13. هي صور تشير إلى أمور لا يمكن أن نحدّدها. هي سلطة الامبراطوريّة التي تعتبر نفسها من طبيعة الله، وتفرض أن يُسجد للامبراطور كأنه الله. ففي مجتمع يرى الاطار الدينيّ الشرط الاساسيّ لكل حياة اجتماعيّة وظيفيّة وسياسيّة، من رفض أن يشارك في هذه العبادة يُحسب مقاومًا للسلطة مقاومة جذريّة، بحيث لا يُسمح له بالحياة. والمسيحيون اللذين لا يعبدون سوى الاله الواحد، صاروا "ملحدين" حقيقيّين، لأنهم لا يعبدون الآلهة التي يعبدها الجميع، من خلال عبادة الامبراطور ورومة. وهكذا يصبحون أعداء الجنس البشريّ. لا يبدو أن دوميسيانس قام باضطهاد منظّم ضدّ المسيحيين في الامبراطوريّة كلها. ففي وضع لم يصل بعد إلى أزمة مقتوحة، اكتشف رؤ معارضة لا هوادة فيها، تجعل الامبراطوريّة الاصناميّة في وجه المسيحيّة. هناك خصمان، ويجب أن يزول واحد منهما. ولا يخاف رؤ أن يقول ما ليس بمفعول على مستوى البشر، شعب المسيح هو الذي ينتصر. بل هو توجّه إلى هذه الحفنة من الناس الذين لا يملكون الوسائل الكبرى أمام امبراطوريّة تسود الكون المعروف في ذلك الزمان، ليقول لهم إنهم منذ الآن انتصروا. ونصرُهم هو النصر الحقيقيّ الذي كُشف على الصليب.

في هذه الظروف، لا مجال للمهادنة مع عبادة الاوثان، مهما هدّدتنا. والاستشهاد والموت من أجل المسيح، لا يجعلان المؤمن يتراجع، لأنه عارف أنه ذاهب إلى القيامة، إلى الحياة الأبديّة،

غير أن هذا الارشاد القاسي بمتطلباته، لم يقنع جميع المؤمنين في آسية الصغرى (تركيا الحالية). فلا بدّ من الالحاح في التعليم، والدعوة إلى الله وطاعة الايمان الذي يمكن أن يقود إلى الموت.ولا بدّ من تهديد أصحاب موقف يساوم مع الممارسات الأصناميّة. فالايمان المسيحيّ جذريّ ولا يقبل بأي تنازل. كما لا يقبل بأن نُنكر المسيح في العلن ونعتبر أننا نعبده في السرّ. مثل هذا التفكير منبعه الشيطان. ذاك هو موضوع الرسائل إلى الكنائس (ف 2-3). هذا ما يدلّنا على تيارات مختلفة في المسيحيّة، ومنها امكانية المشاركة في ولائم في ظل المعابد الوثنيّة ونبقى مسيحيين (رج 1كور 8-10). مثل هذا الموقف يرفضه رؤ رفضًا باتًا، لأنه يعني أن ننكر المسيح أمام الناس ونجحد إيماننا فننفصل عن جسم الكنيسة.

سابعًا : اللاهوت.

1) الكنيسة ورسالتها النبوية. في نهاية ف 10، ينال الرائي مهمّة التنبوء. وفي ف 11، نرى تتمّة هذه الرسالة : نشاط الشاهدين (بطرس وبولس، باسم الكنيسة) وموتهما. لا يقال شيء عن مضمون كرازتهما. ولكن النصّ يشدّد على أنهما قُتلا في سبيل ربّهما (11 :8)، فصُوّرت قيامتهما بألفاظ تذكّرنا بقيامة المسيح. إنهما حقًا من الشهود أي أولئك الذين لم يتردّدوا في اتباع سيّدهم، الشاهد الأمين(1 :5) حتّى الموت. هذا ما فعله انيتياس الشاهد الأمين (2 :13). وهكذا يقدّم لنا رؤ بالفاظ ملموسة تحدّد الرسالة النبويّة في الكنيسة : هي عيش قبل أن تكون كلامًا. هي مشاركة في موت المسيح وقيامته. تلك هي دعوة المسيحيين وسط عالم يعاديهم.

وتدوم هذه الرسالة 1260 يومًا (11 :3) أي 42 شهرًا قمريًا (يتضمن كل شهر 30 يومًا). وهذا ما يساوي ثلاث سنوات ونصف السنة. أُخذ هذا التحديد من دا 7:25؛ 12 :7 ونبوءة الاسابيع : عبّر بشكل رمزيّ أن اضطهاد انطيوخس ابيفانيوس لا يدوم سوى وقت قصير، هو الوقت الذي يسمح به الله. نصف اسبوع من السنين.وهذا ما يكون بالنسبة إلى المسيحين الذين يتحدّث إليهم رؤ 11-13 : إن الزمن الذي فيه يكون المؤمنون عرضة لهجمات إبليس وجنوده، محدّد تحديدًا دقيقًا بحيث لا يتجاوز الزمن الذي سمح به الله. ومن يحّدده؟ محبّة الله الذي يسهر على أحبّائه.

2) ولادة الانسان الجديد. في الحقبة نفسها، اضطهدت المرأة (ف 12) التي تدلّ أول ما تدلّ على شعب الله. اضطهدها التنين الذي هو إبليس فنالت عونًا عجائبيًا جعلها في مأمن من الخطر شأنها شأن الشعب العبرانيّ في البرية. فالتنين خصم قُهر منذ الآن : في ولادة المسيح (والمرأة التي هي أمه، هي مريم العذراء. رج يو 2 :1-4). طُرد إبليس طردًا نهائيًا من السماء. فلا يبقى له سوى أن يضطهد المسيحيّين على الأرض. ولكنه لا يستطيع بعد أن يقف في وجه مخططات الله وينجح. وسبب هذه الهزيمة ولادة المسيح. ويَرد مصيرُ هذا الولد بشكل عجيب : ما إن وُلد حتّى رُفع إلى السماء، إلى الله. وهكذا نكون أمام لوحة سريعة تبدأ في بيت لحم وتنتهي في الصعود. ويُنشد النصرُ الذين ناله الشهداء حين ماتوا مع ربّهم المصلوب (آ11). وهكذا يكون ف 12 إعلانًا لموت المسيح على أنه انتصار على الشيطان. وإن يو 16 :19-22 يتحدّث عن الصلب على أنه ولادة في الاوجاع ينتهي في فرح الولادة التي هي القيامة. هنا تلتقي النظرة التي تعرفها الايتونوغرافيا الشرقيّة التي تربط مولد المسيح في بيت لحم بصورة قبر يذكّرنا بالقيامة وبما سبقها من موت في قبر مظلم. وهكذا يُقهر الشيطان ساعة يشاء الله أن يتوّج ملكًا على العالم، ذاك الذي بدا نصرُه، في عيون البشر، الفشل الأكبر. عندئذ يولد الانسان الجديد، وذلك حين يرضى أناس بأن لا يستندوا إلّا إلى الله ولو كلّفتهم أمانتُهم الموت. فمهما حصل، هم الغالبون الحقيقيّون الذين يبيّنون الواقع الحاضر لعالم جديد هم أول شهود له.

أما الكرستولوجيا الاساسيّة لكل هذا التوسّع فنقرأها في بداية رؤ (1 :5). يسوع هو "الشاهد الأمين، وبكر من قام من بين الأموات، وملك ملوك الأرض". نحن أمام ثلاثة ألقاب لرستولوجيّة. يعود الأخير، بلا شك إلى سيادة المسيح الذي رُفع عن يمين الآب. والثاني يرتبط بالقيامة. والأول يدل على الصلب. هنا يتحقّق الفداء الشامل (5 :9) الذي يتيح للبشر أن يحيوا لله، ويشاركوا في ملك حبّه. وهكذا لن يمّروا في دينونة بعد أن انتقلوا من الموت إلى الحياة (يو 5 :24).

ونحن نجد موضوع الدينونة في كل صفحات رؤ. نحن أمام دينونة واحدة تُبرز وجهاتها المختلفة، وتُعلن في الآن والمكان. فالعنصر الحاسم سبق وحصلنا عليه، بعد أن تحقّق في المسيح تحققًا تامًا. لهذا، فالكتاب الذي سيكون أساس هذه الدينونة (20 :12) يُسمّى "كتاب الحياة، كتاب الحمل المذبوح" (13 :28) : إنه يتضمن أسماء الناس الذين أخذ المسيح على عاتقه مصيرهم وقبلوا أن يحيوا منه. حينئذ يكونون في العالم، الأنبياء الذين يشهدون أن الدينونة واقع حاضر (11 :18). وهكذا نفهم أن الألف سنة التي يتحدّث عنها رؤ هي الزمن الذي تعيش فيه الآن. بدأت مع موت المسيح وقيامته (بل كل حياته) وتنتهي في عودته.







الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية

God Rules.NET
Search 100+ volumes of books at one time.