الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية: غنوصية


المسيحي مؤشر موسوعة إلكترونية

أولاً : المدلول. ليست الغنوصية فقط معرفة مفهومية بل هي اتصال حقيقي ووحدة النفس مع الله. من هذا القبيل تبدو الغنوصية إحدى الافكار الرئيسية في الصوفية الهلينية كما برزت بعد بداية المسيحية. أشكالها التاريخية المعروفة هي ثلاثة : الهرماتية، نسبة إلى هرمس الذي يقابل حورس، الاله المصريّ (عرفت كتابات تتراوح بين القرن الاول والقرن 4). الغنوصية المسيحية (لنتينوس، باسيليدس). والغنوصية الشعبية. وُلدت الهرماتية والغنوصية المسيحية في الاسكندرية وكانتا نظرة فلسفية. أما الغنوصية الشعبية التي نجحت بشكل خاص في سورية (سمعان الساحر)، فتوجّهت نحو السحر (احتفالات، عبارات، لغة باطنية) الذي يعطي قوى تفوق قوى البشر. وتتميّز اشكال الغنوصية بالسمات التالية : 1) نحصل على المعرفة بالوحي (رؤية، حدس، عرافة، نبوءة). 2) موضوع المعرفة هو الله وعلاقة الانسان والكون بالله. في هذا الاطار يدخل الميتوس (وخاصة الميتوس الكوسموغوني) ليقلص المسافة التي تفصل اله الفلسفة البعيد عن الكون، والشر عن الخير. 3( ومعرفة الله هذه تُنتج بنفسها الخلاص من كل شر (إذًا من الموت أيضاً) وتجعل الانسان خالدًا. إننا وإن كنا لا نعرف الادب الغنوصي الا بنصوص تعود إلى الزمن المسيحي، إلاّ أن الباحثين في تاريخ الديانات متّفقون أن الافكار التي تتوسع فيها الغنوصية هي قديمة. من هنا يطرح السؤال : هل من تأثير للغنوصية على عبارة : عرف الله، معرفة الله.

ثانيًا : العهد القديم والعالم اليهودي.

(أ) ان الترجمة السبعينية التي تمت في الاسكندرية تنقل كلمة معرفة عند الله (الله يعرف) وعند الانسان (الانسان يعرف) بفعل "غينوسكو". هذا الفعل يفترض دوما معرفة يرافقها عمل آخر. الله يعرف شعبه حين يختاره ويحميه. والشعب يعرف الله حين يحسّ بخيرات تُدخله في الطبيعة وفي التاريخ، حين يُقرُّ به ويطيعه بحيث ان معرفة الله تكون عمليا فعل ديانة. من هذا القبيل، ظلت السبعينية في خط العهد القديم الذي لا يفهم كلمة "يدع" (عرف) كعمل عقلاني بل كفعل يشارك فيه الشخصُ كله : نحن نعرف شخصا، نهتمّ به، أو نعرف شيئاً.

(ب) تتحدث الاسفار الحكمية عن معرفة مشخصة (الحكمة كشخص حي) كانت بقرب الله و الله ينقلها الينا (حك 8 :12). وهناك معرفة نظرية تُعنى بالخلائق، بدوران الكواكب، بأفكار الانسان العميقة، باسرار الله...

(ج) وقربَّنا الادبُ الجلياني من الغنوصية ولا سيما الشعبية منها. نتعرف الى الاسرار ولا سيما الاسترولوجية منها، التي يكشفها لنا الملائكة ولو كان ذلك معاكسًا لإرادة الله. إذن، يلعب هؤلاء الملائكة دور آلهة الغنوصية الادنياء (كما يقول اخنوخ). بعد هذا شخّص الادب الجلياني افكارًا مجردة (البر، الحكمة...) واعترف لها بوجود مسبق وهذا ما يجعلها قريبة من العناصر الغنوصية. وأخيرًا إن التشاؤم الظاهر في اسفار الرؤى يتجاوب بطريقته الخاصة مع ثنائية الغنوصية. نلاحظ أنه وُجد في المسيحية الأولى كلمات يهودية مطبوعة بالغنوصية وقد يكون العهد الجديد استعملها.

ثالثًا : العهد الجديد. الاناجيل الازائية ترتبط بالمحيط الفلسطيني فلا نبحث فيها عن آثار غنوصية. سنبحث عن آثار غنوصية في رسائل بولس الرسول وانجيل يوحنا.

(أ) بولس الرسول. تقول أوساط العقلانيين إن بولس تأثّر بالغنوصية وأنه خلق غنوصية مسيحية ليتجاوب والحاجات الدينية لدى الوثنيين المهتدين. ولكن جاء من يبيّن أن هذا القول لا اساس له وأن بولس ظل في التقليد اليهودي الصافي. ونبدأ بفعل "غينوسكو". فالعبارة "لم يعرفوا الله " (رو 1 :21، 28؛ 1كور 1 :11)، التي نكتشف فيها هجومًا على العالم الوثني هي من العالم اليهودي في الزمن الهليني (حك 13-14). وتأتي من العهد القديم ايضا عبارات "عرف الله" أو "عرفه الله" (1كور 8 :1-3؛ 13 :12، غل 4 :8-9)، لأنها تشدد على مبادرة الله في تاريخ الخلاص وحسب (في مكان آخر يسميها بولس معرفة الله المسبقة. رج رو 8 :28-30؛ 11 :2، 33)، بل بسبب شكلها الذي يتضمّن التعارض حسب النمط التالي : عرف، خلص (1كور 1 :21)، بر الانسان، بر الله (رو 3:21-26)، أدرك المسيح، أدركه المسيح (فل 3 :12). وبين نصوص من هذا النوع يكشف 1كور 13 :12 بصورة خاصة الاصل اليهودي لتعارض : عرف الله، عرفه الله. والتعارض بين رأى الله في هذا العالم ورأى الله في العالم الآخر هو تعارض يهودي لأن العالم الهليني لا يميِّز بين الاثنين، اما العالم اليهودي فيميِّز بينهما. والانتقال من "عرف" إلى "رأى" هو في خط الفكر اليهودي (مز 31:8؛ يو 14 :7-9؛ 1يو 3 : 6). وإننا نقرب عبارة "رأى الله وجها لوجه" من تعليم العهد القديم عن الله الذي لا يُرى في هذا العالم (خر 33:20؛ ق عد 12 :6-8). أما العبارة "رأى في مرآة" فتعود إلى الفلسفة الهلينية.

ونصل الآن إلى الاسم "غنوسيس". فان كانت الغنوصية المواهبية كعطية الهية (1كو(ر 1:5؛ ر 8:7؛ 12 :8، 13 :8) قريبة من الغنوصية الهلينية، فالرسول يبيّن هنا المسافة التي تفصل بينهما. 1) في 1كور 12 و14 يسمي الغنوصية (المعرفة) مع سائر المواهب (الوحي، النبوءة، التفسير، الكلام) التي تنتمي إلى عالم الافكار اليهودية والتي تفسر وجودها في كورنثوس باتصال جماعة اورشليم بالجماعات التي أسّسها بولس. 2) ان موضوع هذه الغنوصية هو مخطط الله الخلاصي (رو 11 :33؛ 1كور 13 :2) كما هو الحال في الاسفار الحكمية والجليانية اليهودية. 3) ونتيجة هذه الغنوصية تختلف عن نتيجة الغنوصية الوثنية. ليست موجهة عند القديس بولس إلى رؤية الله كما في الهلينية. بل هي موجهة نحو الممارسة، وهي تفيد البناء (1كور 12-14). بل هي بدون قيمة ان لم ترافقها المحبة (1كور 13 :8). ومرات عديدة يحارب بولس غنوصية معلمي الشريعة (1تم 6:20؛ رج 1:6 ي؛ كو 2 :3، 23). وهذه الغنوصيّة المتهوّدة هي في خط الغنوصية الشعبية كما في 1كور. كل هذا يبيّن أن الرسائل الرعاوية تحارب هرطقة غنوصية الميول وهي لا تزال في بدايتها. هي تلمح إليها وإلى اليهود الذين يأخذون بها (1تم 1:7؛ تي 1 :10، 14). وأخيراً تقترن المعرفة بعالم الروح وعالم النفس (تك 2 :7؛ 1كور 15:45-47). الغنوصية هي تعلق بالديانة الحقة وقبول بالتعليم الوحداني والكرستولوجي. تنعشها مبادرة الله وتتوجه نحو الممارسة الاخلاقية. كل هذا يحمل طابعاً يهودياً بسبب الوحي وطابعاً جليانياً.

(ب) الانجيل الرابع وُلد الانجيل الرابع بعد الاناجيل الازائية بعشر سنوات تقريبا وفي محيط يختلف عن محيطهم. إننا نجد في انجيل ورسائل يوحنا ردة فعل ضد هرطقة غنوصية. إن الافكار الغنوصية تأخذ كل مدلولها اذا طبّقناها على كلمة الله المتجسّد، وبهذا تتغيّر طبيعتها. بتحدّث يوحنا عن العالم وفي معنى يختلف عمّا هو في العهد القديم بل في سائر العهد الجديد. فالعالم (10 مرات) والله يتعارضان في ثنائية تجد امتدادها في تعارضات مطلقة : النور والظلمة، الروح والمادة، الحقيقة والكذب... ومع هذا يؤكد يوحنا أن العالم خُلق بيد الكلمة أي بيسوع المسيح (يو :3، 10؛ 17 :24) وأن الله أحب العالم (يو 3 :6؛ 1يو 4:7-16)، وهذا ما لا يقوله الغنوصيون. ثم ان انجيل يوحنا يشدد على المحبة لا على المعرفة. ومعرفة يسوع تعني عند يوحنا اتّباعه ولا سيما في طريق المحبة. اجل تعليم بولس ويوحنا نبحث عنه في الوحي اليهودي، في تعليم المسيح في وحي موته وقيامته الخلاصية، ولا نبحث عنه في غنوصيّة وجدت مناخًا لها في العالم اليونانيّ.







الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية

God Rules.NET
Search 100+ volumes of books at one time.