الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية: كتاب مقدس (الـ)


المسيحي مؤشر موسوعة إلكترونية

والعصور المسيحيّة القديمة قبل أن نبدأ الكلام عن مكانة البيبليا في العصور المسيحيّة القديمة، نسوق بعض الملاحظات.

الأولى : اعتبر الآباء اليونان أنّ الكتاب المقدس في الترجمة السبعينيّة، لا في العبريّة، هو الذي أوحاه الله (تيوبنستوس). فاليونانيّة تختلف عن النصّ الماسوري، وتتضمّن أسفارًا (حك، سي، يه، طو، 1-2 مك. با) لا نجدها في النسخة الماسوريّة. دا في اليونانيّة أطول ممّا هو في الماسوريّة، وكذلك نقول عن استير. وفي إر اختلف ترتيب الفصول في الكتاب. والآباء لا يفسّرون النصّ العبري، بل السبعينيّة أو نصًّا يونانيًّا آخر مثل تيودوسيون، اكيلا، سيماك.

والملاحظة الثانية : نص السبعينيّة ونصّ العهد الجديد ليسا موحّدين. فالسبعينيّة نقلت نصوصًا تنوّعت في المكان والزمان. فالنصّ الذي شرحه أوسابيوس القيصريّ ليس ذاك الذي شرحه تيودوريتس القورشيّ. أمّا في ما يتعلّق بالعهد الجديد، فالنصّ المعروف هو النصّ "الغربيّ" الذي نجده بشكل خاص في المخطوط البازي.

والملاحظة الثالثة : لم يتثبّت بعد "قانون" (أو : لائحة أسفار) العهد القديم (أخنوخ مثلاً هو في البيبليا الحبشيّة) ولا قانون العهد الجديد (مثلاً، 2-3 يو، 2بط، رؤ... هل هي من العهد الجديد؟ ).

والملاحظة الرابعة : لم يكن لدى الآباء اليونان نصوص كاملة. فهناك مجموعات من الاستشهادات البيبليّة، كتاب "الشواهد" الذي يحوّل النصّ بعض الشيء ليقدّم البرهان الكرستولوجي، أو يضمّ آيتين مأخوذتين من مكانين مختلفين. وفي ما يتعلّق بالعهد الجديد، يورد الآباء ويشرحون أقوالاً للمسيح لا نجدها في الأسفار القانونيّة. هذا ما سُمّي "اللامكتوبات" أو "أغرافا".

1) مؤلّفات حول البيبليا. أعمال على المستوى النظري.

(أ) أسلوب التفسير

بحث الآباء أوّلاً عن أسلوب لتفسير الكتاب المقدّس. فقد شعروا أنّهم أمام نصّ غامض. في بداية المسيحيّة، اعتُبرت نصوص الأنبياء في المعنى الواسع (موسى، القضاة، الملوك، داود وسليمان هم أنبياء) غامضة. وفي القرن الخامس اعتُبر الكتاب كلّه غامضًا. في الجدال مع اليهود، اعتبر فيلون أن الاستعارة تقع في امتداد المعنى الحرفيّ وتقوّيه. هي على مستوى الرمز. أمّا الآباء فاعتبروا الاستعارة في قطيعة مع المعنى الحرفيّ. هي على مستوى التيبولوجيا أو النمطيّة. العهد القديم ينبئ بالمسيح والواقع المسيحيّ. ومن أجل هذا الجدال بين اليهود والمسيحيّين، ألّف أوريجانس "الهكسبلة" (في ستة عواميد) التي تعطي في عواميد متوازية النصّ العبري ونسْخه في حرف يونانيّ، ومختلف الترجمات اليونانيّة. ولكن هذا الكتاب ضاع ولم تبقَ منه سوى آثار ضئيلة. أما أوسابيوس القيصريّ فتحدّث عن نظريّة وحي إلهي متدرّج صعدًا : بما أنّ السبعينيّة سبقت مجيء المسيح، فقد أخفت بعض الحقائق التي كشفتها الترجمات اللاحقة مثل سيماك. وفي صراع الكنيسة مع "الهراطقة"، بدأت تتحدّد قواعد التفسير. مثلاً، رفض مرقيون في "نقائضه" في نهاية القرن الثاني، مجمل العهد القديم. فسّره بشكل حرفيّ جدًّا، ورفض الاستعارة (أو الرمز) بشكل قاطع، وقام بتصحيح بعض نصوص العهد الجديد. غير أنّ الكنيسة التي أرادت أن تشدّد على وحدة العهدين، أبرزت أهميّة التفسير الاستعاري والتيبولوجي في العهد القديم. وكانت جدالات مع الغنوصيّين الذين مارسوا الاستعارة. ولكنّهم قاموا بعمليّة اختياريّة في النصوص. نأخذ نصوصًا ونترك أخرى. قالوا : ليس الكتاب وحدة عضويّة. ويحتاج إلى نور يأتيه من نظرة فلسفيّة دينيّة هي النظرة الغنوصيّة والوحي الباطني. أمّا الكنيسة فدعت إلى تفسير الكتاب بالكتاب. وفي الجدال مع الوثنيّين (قلسيوس، بورفيريوس، الإمبراطور يوليانس الجاحد)، عمّقت الكنيسة الأسلوب الاستعاريّ ودلَّت على شرعيّته. ولكن الأسلوب الاستعاري الذي أخذت به الاسكندريّة وفلسطين، قد انتقده كتّاب في أنطاكية سورية في القرن الرابع. رفض الانطاكيّون الاستعارة لأنّها في نظرهم تُنكر واقع الأحداث التي نقرأها في البيبليا. وعارضوها بـ "الاستغراق" في التأمل والمشاهدة بـ "التيوريا" التي هي معنى أعمق للنصّ يتواصل مع المعنى التاريخي الحرفيّ. هذا على المستوى النظريّ، أمّا على المستوى العمليّ فالاستغراق في التفسير الأنطاكي يشبه الاستعارة (اليغوريا) التيبولوجيّة عند الاسكندرانيّين. فما هي مبادئ قراءة البيبليا؟ الكتاب غامض، لأنّ الله أراد وهو المربّي الكبير أن يكشف ويُخفي معًا. حتى المعنى الحرفي (التاريخيّ) يحتاج إلى من يثبّته. والبيبليا هي كلّ واحدٌ. فالعهد القديم والعهد الجديد يؤلّفان وحدة تامّة. أو بالأحرى، إنّ العهد الجديد يحقّق في المسيح وفي الكنيسة ما أنبأ به العهد القديم في الشريعة والأنبياء. أمّا الكلمة الأساسيّة فهي التيبولوجيا أو النمطيّة التي هي أقلّ عند الأنطاكيّين ممّا هي عند الاسكندارنيّين. فبالنسبة إلى الأولين المزامير 2، 8، 45، 110 فقط هي مسيحانيّة، هي تشير إلى المسيح.

والمبدأ الثاني : الكتاب يشرح الكتاب. هذا لا يعني أنّ الآباء لا يستعملون في تفسيرهم مفهومًا فلسفيًّا من المفاهيم. بل إنّ العمل في الكتاب هو الأول، هو نقطة الانطلاق. فالتأويل يقوم بأن نقدّم النصوص التي تلقي ضوءًا على النصّ الذي ندرس، وهكذا نكوّن مجموعة من الاستشهادات. وبعد اكلمنضوس الاسكندراني وأوريجانس، اعتُبر الكتاب وحدة عضويّة، يشبه المركَّب البشري في جسد، وفي نفس (هي مبدأ الحركة)، وفي روح (هو مبدأ إلهيّ). لذلك هناك مستويات للمعاني في البيبليا. ويرى أوريجانس أنّ المعنى التاريخيّ الحرفيّ ليس موجودًا دائمًا، وخصوصًا في أمور غير معقولة. والمعنى الخلقيّ أي التعاليم التي يتضمّنها الكتاب من أجل الحياة المسيحيّة. وأخيرًا المعنى الروحيّ الذي يمكن أن يكون تيبولوجيًّا (المسيح، الكنيسة، المسيحيّون) أو استعاريًّا (يشير إلى الحقائق الروحيّة). والتفسير الاسكندرانيّ الذي استند إلى المعنى الحرفيّ، قد شدّد على المعنى الخلقيّ والاستعاريّ. أمّا التفسير الأنطاكي، فلم يستبعد الاستعارة (اليغوريا)، ولكنّه تعلّق بالمعنى التاريخيّ الحرفيّ يوضحه كما فعل تيودورس المصيصيّ، أو بالمعنى الخلقيّ كما فعل يوحنا فم الذهب.

بعد اكلمنضوس الاسكندراني وأوريجانس، وساعة عرفت الكنيسة سلامًا مع الإمبراطور قسطنطين، تأثّرت دراسة الكتاب المقدّس بالقواعد المدرسيّة المعروفة في العالم الوثنيّ. والقاعدة الأكثر استعمالاً هي "اكولوتيا" أو رفاق الخطاب : فعلى المفسّر أن يبحث عن التتابع المنطقيّ للآيات في سفر معيّن، ويدلّ على تماسك المجموعة. فإن كان هناك انقطاع، فهذا يعني أنّنا أمام "اكولوتيا" عميقة. ثمّ قاعدة "البروسوبا" أي الأشخاص. نبحث عنهم لكي نفسّر النصّ تفسيرًا صحيحًا. من يتكلّم؟ الأب، الابن، شعب العهد القديم، شعب العهد الجديد. وهكذا اعتُبر النصّ البيبليّ مسرحيّة. وأخيرًا، هناك الهدف الذي يمكن أن يكون واحدًا أو أكثر. فبالنظر إلى هذا الهدف نفهم الآيات. ومعه تتجاوب البداية حيث نجد بذار المجموعة التي سنجدها في النهاية.

وكانت مسائل خاصّة بالأناجيل. لماذا الاختلافات بين الإنجيليّين؟ فئة أولى وضعت "لوائح الأناجيل" أو المقاطع الموازية. وفئة ثانية شدّدت على عدم التوافق بين الأناجيل وحاولت أن توفّق بين المعطيات المختلفة. وفئة ثالثة توقّفت عند تناغم (توافق،انسجام) الإنجيل، فاستخرجت من الأناجيل خبرًا واحدًا. هذا ما عمله طاطيانس في "الدياتسارون" أو من خلال الأربعة. وتيوفيلس الأنطاكي في "تناغم الانجيل" (الذي ضاع) وكان ذلك في القرن الثاني وفي سورية. ودوّنت مقالات تأويليّة أو مقاطع ذات بُعد تأويليّ. "مسائل" طاطيانس وقد ضاعت. وهناك ف 1-17 من برنابا المزعوم التي تعرض طرحًا يقول بأنّ كلّ عناصر العهد القديم ونظُمه لا تحمل معنًى حرفيًّا (في حدّ ذاتها)، بل هي بشكل حصريّ صور عن المسيح. مثلاً، خدّام ابراهيم الـ 318 يدلّون على يسوع على الصليب. فالرقم 300 يكتب بحرف التاء (T في اليونانيّة) الذي هو صورة عن الصليب، ورقم 18 (يكتب I H) هو بداية اسم يسوع (IHU) في اليونانيّة. ونشير أيضًا إلى مقطعين في كتاب ايريناوس "ضدّ الهراطقة" (3 21 :1؛ 4 26، 1). في نهاية القرن الثاني وفي بداية القرن الأول، ألّفت في الاسكندريّة أهمُّ المقالات التفسيريّة. مقال حول "النبوءة" لاكلمنضوس الاسكندراني (ضاع). المقال الخامس في "الموشيّات" (اكلمنضوس أيضًا) يتحدّث عن "النوع الرمزيّ". غير أنّ النصّ الأساسيّ هو مقال تفسيريّ نجده في "مقال المبادئ" لأوريجانس. عنوانه : في الإلهام الإلهيّ للكتاب الإلهيّ. كيف يجب أن نقرأه ونفهمه. ما هو سبب غموضه والطابع المستحيل أو اللامعقول في بعض مقاطع نقرأها قراءة حرفيّة. يتألّف هذا المقال من قسمين كبيرين : قسم أول عن الوحي الإلهيّ في الكتب المقدّسة. وقسم ثانٍ حول قواعد تفسير الكتاب مع مثل تفسير لتاريخ اسرائيل. ووُجدت بعد أوريجانس عدّة مقالات (أو مقاطع من كتب) تعرض مبادئ التفسير. عند الأنطاكيّين أولاً. تطرّق يوحنا الذهبيّ الفم إلى موضوع الغموض البيبلي بأسلوب هجوميّ في "غموض النبوءات" : إن كان الأنبياء قد تكلّموا بشكل غامض، فلأنهم أعلنوا دمار اليهود الذين تحلّ محلّهم الكنيسة. لهذا خافوا من أن يقتلهم بنو دينهم. وهناك أسلوب تيودورس المصيصيّ. وفي القرن الخامس كتب هدريانس "مقدّمة إلى الكتب الإلهيّة"، في خطّ مدرسة أنطاكية. فميّز بين المعنى الحرفيّ ومعنى أعمق.

(ب) تفسير الآباء اليونان للبيبليا

ونبدأ بشكل أدبيّ عتيق هو "الشواهد" (تستيمونيا). مجموعة من الإيرادات البيبليّة جُمعت من أجل هدف "إيديولوجي". وُجدت شواهد في قمران. كما في الزمن الرسوليّ مع هدف تيبولوجي : تبيّن أنّ العهد القديم قد أنبأ بالمسيح. بعد القرن الثالث، هناك شواهد ضدّ اليهود في العالم اللاتينيّ (قبريانس) وفي العالم اليونانيّ (غريغوريوس النيصي المزعوم). المبدأ الذي يشرف على كلّ هذا : الكتاب يفسّر الكتاب. أعطت هذه الشواهد للكتّاب اليونان ملفّات من الإيرادات تدلّ على أنّ المسيح قد أتمّ النبوءات. واستعمل الآباء أيضًا "الأسمائيّات" أو "اونومستيكا" (اسم الجنس واسم العلم)، والمعاجم الإبجديّة التي تتضمّن الكلمات الصعبة التي نجدها في الأسفار البيبليّة بحسب اللائحة القانونيّة. يبدو أنّ أقدم هذه المعاجم لا يعود إلى ما قبل القرن السادس. واستعملوا "الكرونيكات" التي تبدأ منذ خلق العالم.

بعد ذلك بدأت التفاسير التي هي أكثر من أن تُحصى. غير أنّنا لا نجد تفسيرًا لنصوص حك، سي، اس، يه، طو، 1-4مك، لأنّها تُفهم حالاً، وهي تتوجّه بشكل خاص إلى الموعوظين. حوالي سنة 130، ترك لنا بابياس "شروح خطب الرب". وكتب باسيليدس حوالي سنة 150 في الاسكندريّة 24 كتابًا في "شرح الأناجيل" كما يقول أوسابيوس القيصري في التاريخ الكنسي (7 :7). وألّف هيراقليون، تلميذ ولنطينس، كتابًا عن يوحنا أورد منه أوريجانس عددًا من المقاطع في "تفسير يوحنا". أما أول تفسير مسيحيّ وصل إلينا فهو "تفسير دانيال" لهيبوليتس (بداية القرن الثالث). وفسّر أوريجانس تك 1 :1-5 :1؛ إش 1:1-30 :5؛ الأنبياء الصغار ما عدا عوبديا؛ حزقيال؛ مز 1-25 في الاسكندريّة مرّة أولى، ثمّ مز 1-150 في قيصريّة فلسطين (ولكنّه لم يفسّر جميع المزامير)، وفسّر أيضًا : أم، جا، نش (مرتين) مرا، مت، يو (حتى 13 :13)، لو، رو، غل، أف، فل، كو، 1-2تس، تي، فلم، وربّما عب. أما السفر الذي فسّر مرات عديدة فهو المزامير.

ومع التفسير نذكر الوعظ، مثل عظة مليتون السرديسي حول الفصح (النصف الثاني من القرن الثاني)، وعظة اكلمنضوس الاسكندراني حول الصوم، وهيبوليتس الروماني حول المزامير. أما أوريجانس فقد كتب تفسيرًا للكتب المقدّسة بشكل مواعظ : تك (16 عظة). خر (13). لا (16). عد (28). تث (13). يش (26). قض (9). 1صم (4). إش (32). إر (45). حز (14). مز (120). أي (22). أم (7). جا (8). نش (2). مت (25). لو (39). أع (17). 1-2كور (11). غل (7). 1-2تس (2). تي (1). عب (17). هذه العظات ضاعت أو حُفظت لنا في ترجمة لاتينيّة قام بها روفينوس أو ايرونيموس. وبعد أوريجانس نمتلك عددًا كبيرًا جدًّا من المواعظ يستحيل ذكرها هنا.

ونذكر الحواشي أو سكوليا، والمنتخبات أو إكلوغاي، والأسئلة والأجوبة (منذ فيلون وعالم الاسكندريّة اليهوديّ حتى أوسابيوس القيصري وتيودوريتس القورشي ومكسيموس المعترف)، والمقال (حول الفصح لإكلمنضوس الاسكندرانيّ)، والنبذات، والموشيات، والنقوش، والرسائل (تتوجّه إلى شخص حقيقيّ أو يتخيّله الكاتب، فتشرح آية من الكتاب. باسيليوس. تيودوريتس القورشي، ساويرس الأنطاكي)، والدلائل أي هيبوتاسيس (معلومات حول فهم كتاب)، وسير الأشخاص (حياة موسى لغريغوريوس النيصيّ)، والمناقضة (نقدّم المقاطع البيبليّة التي تردّ علىالخصم وتنقض برهانه. أواغريس البنطي). وهناك أخيرًا السلسلات التأويليّة (بروكوبوس، الفلسطينيّة، البيزنطيّة).

2( مكانة البيبليا في اللاهوت وفي حياة الجماعة.

للبيبليا المكانة الأولى في اللاهوت. فلا نستطيع أن نميّز قبل مجمع نيقية (325) كتابًا ينتمي إلى اللاهوت النظري من كتاب ينتمي إلى اللاهوت البيبليّ. نذكر هنا "مقال المبادئ" لأوريجانس الذي ألّف في الاسكندريّة حوالي سنة 230 فتركّز على علاقة الله بالعالم. وكانت مواضيعه : الله، الخلائق العاقلة، الكون. وهناك تسعة أسئلة عالجها المؤلّف في هذه "الخلاصة اللاهوتيّة" (الأولى في المسيحيّة، على ما سيفعل غريغوريوس ابن العبري أو توما الاكويني) : التجسّد، النفس، الحريّة، الإلهام... كلّ المواضيع تعالج انطلاقًا من الكتاب المقدس. فالبيبليا واللاهوت لا ينفصلان.

وهناك مثل آخر، "ضدّ أونوميوس" لغريغوريوس النيصيّ. فيه لعبت النصوص الكتابيّة دورًا كبيرًا في هذه المحاولة اللاهوتيّة. رفض غريغوريوس تفسير يو 20 :17 "لأني ما صعدت بعد إلى الآب" فقال : إنّ هذه الآية لا تبرهن عن تسامي الله بالنسبة إلى الابن الوحيد. فيجب أن نميّز في يسوع بين الله والإنسان. هنا المسيح كإنسان يتكلّم. وأم 8 :22 "الربّ اقتناني أول ما خلق من قديم أعماله في الزمان" لا يبرهن كما يقول أريوس على أنّ الابن هو خليقة. استعمل غريغوريوس قاعدة "الأكولوتيا" (أو رفاق المقطع) فدلّ على أنّ التفسير الحرفيّ للآية غير ممكن. إنّ آ21ب-25 لا تبدو متماسكة، و آ22 تعارض يو 1 :3. إذن، للآية معنى أعمق، وهي تعود إلى تجسّد الابن الوحيد. والنتيجة : الهراطقة هم مفسّرون أردياء. أما الأورثوذكسيّة فتمتلك الطريقة السليمة والمستقيمة للتفسير.

حوالي سنة 230 فسّر أوريجانس 1كور 15 :44 "هناك جسم بشريّ، فهناك أيضًا جسم روحانيّ" قائلاً بأنّ الجسد القائم هو ذات الجسد المائت، وهو مختلف عنه. هو هو. ولكنّه تحوّل إلى أحسن. وتساءل أوريجانس : كيف يفسّر الهراطقة 1كور 15 :39-42 الذي يرى فرقًا بين قائم من الموت وقائم؟ إنّ تعليمهم حول جسد قائم ليس من طبع الجسد الحيواني، يجعل فهم هذا المقطع مستحيلاً. وهكذا يبيّن أوريجانس ضعف الهراطقة وعدم جدارتهم في شرح النصوص.

في منتصف القرن الرابع ألّف باسيليوس (من قيصريّة كبادوكية في تركيا) "مقال في الروح القدس" ضد أياقيوس وأونوميوس والأونوميين. ظنّ أياقيوس أنّه يقدر أن يبرهن أنّ الآب والابن والروح القدس ليسوا متساويين بحسب المبدأ الذي يقول : "الكائنات التي تُذكر بشكل مختلف هي مختلفة بعضها عن بعض". ويتابع أياقيوس : تذكر الكتب المقدّسة كلاًّ من الآب والابن والروح مع حرف جرّ مختلف : الآب، منه. الابن، به. الروح، فيه. ردّ باسيليوس على المستوى الكتابيّ فدلّ على أنّ الهراطقة لا يجدون لهم أي سند في الكتب المقدّسة التي تطبّق في شكل لا يختلف هذه الحروف الجرّ الثلاثة على كل من الأقانيم الثلاثة في الثالوث. إذن، من جهة حروف الجرّ، الأقانيم الثلاثة متشابهون. و"منه" لا تقال فقط عن الآب، كما يرى الأونوميون، بل عن الابن أيضًا (أف 4 :15-16...). و"به" لا تقال فقط عن الابن بل عن الآب (1كور 1 :9...) وعن الروح (1كور 2 :10...). و"فيه" تقال عن الآب والروح (رو 1 :10...). وفي النهاية، يذكر باسيليوس مت 28:19 (عمّدوهم باسم الآبن والابن والروح القدس) حيث تجتمع الأقانيم الثلاثة على المستوى الواحد.

في بداية القرن السادس، كان يوحنا القيصري (في الصرف والنحو) كاتبًا لعب دورًا كبيرًا في الجدال المونوفيسي (يشدّد على الطبيعة الواحدة). هاجم الذين يقولون إنّ جسد المسيح قبل القيامة كان لا فاسدًا. استند إلى أع 2:31 " ولا نال من جسده الفساد" فردّ على هذا التأويل وقدّم التأويل الصحيح : لا يعني أع 2:31 أنّ المسيح كان "لافاسدًا" بالطبيعة، بل أنّ جسده لم يعرف أنحلالاً في عناصره. وبحسب القاعدة التي تقول إنّ الكتاب يشرح الكتاب، فالمعنى الحقيقيّ لهذه الآية نجده في أع 13:34 (يعود إلى الفساد) حيث أداة النفي تدلّ على الطابع "الفاسد" لجسد المسيح قبل القيامة.

في القرنين الأوّلين في المسيحيّة، عاد الكتّاب إلى العهد القديم بسبب الجدال مع اليهود، وبسبب التيبولوجيا. ولكن بعد ذلك، سوف يسيطر العهد الجديد سيطرة تامّة. ففي عدد من مقالات يوحنا القيصريّ، لن نجد استشهادًا واحدًا من العهد القديم. وعلى مدى العصور، سوف "تخلق" الكنيسة كلمات لاهوتيّة غير موجودة في الكتاب المقدّس. "هومواوسيوس" (من ذات الجوهر)، "فيسيس" (الطبيعة). ويحاول الآباء أن يسندوها بالكتاب كما فعل باسيليوس في نقاشه حول حروف الجرّ التي تسبق أسماء الأقانيم الثلاثة. وسيلعب الكتاب المقدّس دورًا كبيرًا في الجدالات اللاهوتيّة. الكتاب يفسّر الكتاب. ثمّ إنّه لا يحقّ "للهرطوقيّ" أن يختار النصوص التي تلائمه ويترك الأخرى. دخلت البيبليا في اللاهوت المسيحيّ. ودخلت أيضًا في حياة الجماعة المسيحيّة. لا شكّ في أنّه ليس هناك لغة خاصة بالمسيحيّة، لأن إله المسيحيّين يتكلّم جميع اللغات، ولكن هناك ألفاظًا عديدة قدّمها العهد الجديد للكنيسة، للفقاهة، لليتورجيا، للصلاة، للتأويل، للاهوت المسيحيّ.

وعرف اليهود دورتين من القراءات. دورة تمتدّ على ثلاث سنوات ونصف السنة في فلسطين، هكذا فعل يوحنا ولوقا، ودورة تمتدّ على سنة واحدة (في بابل، هكذا عمل مرقس). وقد أخذت الكنيسة بهاتين الطريقتين. ويبدو أنه كان في زمن أوريجانس وما بعد ثلاثة أنواع من الاجتماعات : اجتماع لا افخارستيا فيه، في كلّ صباح في أيام الأسبوع. اجتماع افخارستي صباح الأحد. اجتماع افخارستي يوم الأربعاء والجمعة مساء. وهكذا كانت ثلاث دورات من القراءة والوعظ : يُقرأ العهد القديم ويفسّر كلّ يوم. وذلك على مدى ثلاث سنوات. يقرأ الإنجيل ويفسَّر فقط في الثلاثة أيام التي يُحتفل فيها بالافخارستيا (الأربعاء، الجمعة، الأحد). وذلك على مدى ثلاث سنوات. أما ليتورجيّة أورشليم فقد عرفت دورة سنويّة في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس. وهناك أيضًا ليتورجيّة الأعياد، وليتورجيّة الأسرار مع رموزها، وأوقات الصلاة مع مكانة خاصة للمزامير. ومنذ القرن الرابع وظهور الحياة الرهبانيّة، ستتّخذ صلاة الساعات الطقسيّة مكانة هامة مع دور كبير للكتاب المقدّس ولا سيّمَا المزامير : "أهلل سبع مرّات في النهار" (مز 119:164).







الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية

God Rules.NET
Search 100+ volumes of books at one time.