الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية: مجيء، (الـ)


المسيحي مؤشر موسوعة إلكترونية

1) الألفاظ. باروسيا في العالم الهليني تعود إلى "بارانياين" الذي يدلّ على الحضور الناشط، ثم على الوصول والمجيء، والافتقاد والعودة. بعد الحقبة الهلنستية، دلّ بشكل خاص على زيارة الملك الرسميّة إلى مقاطعة أو مدينة، بما في هذه الزيارة من طابع قدسيّ. ويترافق هذا المجيء باحتفال يهيّئه إصلاح الطرق. ويتضمّن دخولاً مفرحًا، وخطب مديح، وتقديم تاج الذهب والهدايا. وكان هذا المجيء مناسبة لتقديم الطلبات والحاجات. خلال حقبة الامبراطوريّة، اغتنى الاحتفال بعناصر جديدة. فصار بداية عهد جديد، وتذكّره صكّ النقود، وشُيِّدت الأبنية، وأقيم عيد تذكاريّ. ونشير أيضًا إلى أن "باروسيا" دلّت مرّات قليلة على ظهور إله جاء يحمل الخير على الأرض. هذا ما يُسمّى ابيفانيا.

لا نجد لفظة "باروسيا" سوى أربع مرّات في السبعينيّة، وفي المعنى الدنيويّ، لا الدينيّ. نح 2:6 في المخطوط الاسكندراني. يه 10 :18؛ 2مك 8 :12؛ 15 :21. أما فكرة الظهور الالهي والمجيء الاسكاتولوجيّ فنجده في مدلول يوم الربّ.

ونصل إلى العهد الجديد. ونبدأ بالرسائل البولسيّة. يستعمل بولس لفظة باروسيا تارة في المعنى الدنيويّ فتعبّر عن حضور (أو وصول) بعض الأشخاص (استفاناس، 1كور 16 :7؛ تيطس، 2كور 7 :6-7؛ بولس، 2كور 10 :10؛ فل 1 :26؛ 2 :12)، وطورًا في المعنى الديني، وفي معرض الحديث عن مجيء المسيح (1كور 15 :23؛ (1تس 2:19؛ 1تس 3:13؛ 4 :15؛ 5 :23؛ 2تس 2:1-8). أو الحديث عن ظهور الخصم (2تم 2:9). أمّا في الأناجيل، فإن مت وحده يستعمل لفظة "باروسيا" فقط في معرض الحديث عن الظهور الاسكاتولوجيّ (24؛ 3، 27، 37، 39). غير أن الإنجيليين الأربعة استلهموا المجيء الملكيّ ليصوّروا دخول يسوع الانتصاريّ إلى أورشليم (مت 21 :1-11 وز). وتظهر لفظة باروسيا أيضًا في معناها الدينيّ في 2بط 1:16؛ 3 :4، 12؛ يع 5 :7-8؛ 1يو 2 :28. أما الرسائل الرعائية ففضّلت لفظة ابيفانيا (الظهور الالهي).

فالمجيء (باروسيا) كمدلول دينيّ يشير إلى الاسكاتولوجيا، ويقرَّب من يوم الربّ (يوم يهوه). وتظهر المقابلة بين اللفظتين مرات عديدة عند بولس (ق 1تس 4:15 مع 5:2-4؛ 2 :19 مع فل 2 :15-16؛ 3 :14؛ 5 :25 مع 1كور 1 :8؛ فل 1 :6، 10؛ ق 2تس 2:1 مع 2:2؛ ق أيضًا 2بط 3:4، 12 مع 3 :10). ونستطيع أن نلاحظ أيضًا أن لوقا تكلّم عن يوم (أو : أيام) ابن الانسان في مقاطع تتوازى مع مقاطع يستعمل فيها مت لفظة باروسيا (ق لو 17 :24، 26، 30 مع مت 24:27، 37، 39). واستعمال باروسيا في معرض الحديث عن يوم يهوه (أو : الرب) يقدّم لنا تمثّلاً لهذا اليوم كدخول مفرح يقوم به الملك. ويُبرز بولس الرسول هذا التشبيه حين يذكر مجيء المسيح الأخير : فموكب المؤمنين يذهب إلى لقاء موكب المسيح (أبنتيسيس، 1تس 4 :17). واستعمال لقب الجلال، لقب كيريوس، ينتمي إلى بروتوكول الامبراطور (1تس 4:16-17؛ (رج 2:19؛ رج 3:13؛ 5 :23؛ 2تس 2:1-8). ويُذكر الاكليل والفرح (1تس 2:19). وهكذا ترتبط في العهد الجديد النظرةُ التوراتيّة إلى يوم يهوه، بعد أن أعيد تفسيرها بالنظر إلى المسيح، بمدلول حضاريّ ودينيّ نجده في لفظة باروسيا كما نجده في وسط رومانيّ ويونانيّ. غير أن الواقع الذي تدلّ عليه هذه اللفظة الآتية من العالم اليونانيّ، يحتفظ بطابعه اليهوديّ الخاص والمسيحيّ. وهذا ما تدلّ عليه الصور والألفاظ التي ترتبط بالنمط الجليانيّ : 1تس 4:16؛ رو 8 :18؛ 1كور 1 :7؛ 2تس 2:8. استعمال "كشف" (ابوكالبتاين) ومشتقاته.

2) اللاهوت. (أ) طبيعة المجيء (باروسيا). ان معطيات العهد الجديد وتعاليمه حول المجيء، تتسجّل في تمثّل مسيحيّ لنهاية الأزمنة. هذا التمثّل ورث نظرات اسكاتولوجيّة من العالم اليهود البعد منفاويّ ولا سيّما الجليانيّ منه، كما حوّله تحويلاً أساسيًا على ضوء وحي الفصح والقيامة. ففي قيامة المسيح، قد بدأ عهد جديد دشّنه يوم الرب، وأقيم ملكوت الله. فالمسيح القائم من الموت جلس على عرشه كمخلّص الشعب وربّ الكون. وهو منذ الآن منفّذ الوصيّة الالهيّة والدينونة. وهذا الواقع المتسامي الذي بدأ في سرّ المسيح، وعُرض للايمان، ودلّت عليه عطيّة الروح، يتوق إلى ملء تمامه وإلى تجلٍّ واضح يدلّ على نهاية الزمن الحاضر. فالموضوع التقليدي ليوم الرب، يجد منذ الآن تطبيقين اثنين : من جهة، هو يشير إلى يوم تدشّن فيه الفصحُ المسيحي الذي فيه قام يسوع من بين الأموات وصار ربًا، بعمل الله. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، هو يعلن باروسيا، أي المجيء المجيد والحاسم الذي فيه يُظهر المسيح سيادتَه (هو السيّد والربّ) ويمارس سلطانه كديّان. تارة يظهر منظور هذا المجيء الأخير، فيكوّن تجنيدًا ورجاء ولا سيّما في حقبات المحن. وطورًا، يُمّحى على حساب اعتبار للتسامي الروحيّ الذي تمّ منذ الآن في المؤمن وفي الكنيسة بعطية الخيرات الاسكاتولوجيّة الحالية. ولكن مهما يكن من أمر التشديد، فيبدو أن مجمل كتابات العهد الجديد تعبّر عن اليقين الواحد : إن المسيح يسوع يمارس في قصد الله الخلاصيّ، دورًا فريدًا سيظهر بُعده الكوني. وسيناريو المجيء الملكيّ والدينونة بيد إبن الانسان، وحضور عالم جديد، هو صورة خاصة عن هذا اليقين الإجماليّ الذي ينطلق من أوضاع تاريخيّة ورعائيّة، فيلهم توصيات وتمثّلات متنوّعة (في العهد الجديد) ترتبط بالانتظار الاسكاتولوجيّ.

أولاً : الأناجيل الإزائيّة. مع أن لفظة باروسيا لا تظهر إلاّ في مت 24، إلاّ أن الأناجيل الإزائيّة تلمّح مرارًا إلى مجيء المسيح المجيد. وفي معرض الحديث عن الشهادة، تشير النصوص إلى ظهور ابن الانسان كديّان يحيط به ملائكته (مر 8 :38 وز). ونجد الموضوع عينه في مت 13:36-43؛ 25 :31-46 (بشكل أوسع). وهذا التجلّي سيكون ظاهرًا كالبرق، فلا يقدر إنسان أن يتجاهله (مت 24:26-27؛ لو 17:23-24). وحسب الرؤيا الازائيّة (مر 13 وز)، يكون هذا الظهور تكملة لتاريخ الخلاص : فهو يتعلّق "بنهاية العالم" (مت 24:3) ويرافقه إرسال الملائكة ليجمعوا المختارين من أربعة أقطار الأرض (مت 24:31؛ مر 13:27). وهكذا يهيّئون الدينونة الأخيرة (مت 13:41-42) التي تسبقها المهلة الضروريّة لتقديم الانجيل إلى جميع الأمم (مر 13 :10 مت 24 :14). غير أن هذا المجيء الاسكاتولوجي يبقى، في الرؤيا الازائيّة، مرتبطًا بأوضاع وأحداث حصلت في فلسطين (تحذير من المسحاء الكذبة : مر 13:5-6 وز؛ تلميح إلى الاضطهادات في المجامع : مر 13:9 وز)، ولا سيّما دمار الهيكل (مر 13 :2-3 وز). هذا يتعلّق من جهة بتجذّر الخطبة في محيط مسيحيّ متهوّد، ومن جهة أخرى بمدلول دينونة الله وحكمه. وهكذا، وفي خطّ كرازة الأنبياء، بدا دمار أورشليم دينونة في نظر الجماعات المسيحيّة الفتيّة التي اختبرت في خطى يسوع الاضطهادات من قبل اليهود. ومهما يكن من أمر، فتنجيس الهيكل (مر 13:14-15؛ مت 24:15-16) ودمار أورشليم (لو 21 :20-21) هما علامة حاسمة في انطلاقة "الضيق العظيم"، الذي هو فريد في تاريخ البشريّة (مر 13 :19 وز؛ رج يوء 2 :2؛ دا 12:1، وذلك في ما يتعلّق بيوم يهوه).

إن الطريقة التي بها يرتبط ظهور ابن الانسان بزمن الضيق، تختلف من إنجيل ازائي إلى آخر. هو يُذكر بعد الضيق العظيم : إن مر 13:24 يكتفي بأن يشير إشارة غامضة إلى هذا الظهور (في تلك الأيام). أما مت 24:29 فيحدّد موقعه حالاً بعد ذلك (بعد تلك الأيام). هذا يتوافق مع الطريقة التي بها يستعيد مت إعلان يسوع أمام قيافا : فالتحديد الكرونولوجي "منذ الآن" (الذي لا نجده عند مر) يرتبط بالمجيء على الغمام (لا نجده عند لو). ونستطيع أن نذكر أيضًا قول مت 16:28 حول مجيء ابن الانسان القريب في ملكوته (نجد نسخة أخرى في مر 9:1؛ لو 9 :27). فموضوع قرب المجيء يظهر هو ذاته في مت 10:23. مقابل هذا، فصل لو، على ضوء أحداث تاريخيّة، دمار أورشليم عن ظهور ابن الانسان، فأدخل حقبة متوسّطة سمّاها "زمن الأمم". فنهاية أورشليم لم يتبعها المجيء حالاً. ولوقا يعتبر هذه النهاية عقابًا كانت الأمم أداتها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، أبرز لوقا المدى الحاضر على أنه إطار لتاريخ الخلاص بفعل انتشار الرسالة في العالم الوثنيّ.

إن التقلّبات الكونيّة التي حسب الازائيين (مر 13 :24-25 وز) ترافق تجلّي ابن الانسان المجيد، تستعيد صورًا معروفة عند بعض الأنبياء وفي العالم الجليانيّ حول تدخّل الله من أجل الانتقام، وحول يوم الربّ ((إش 13:9-10؛ إش 34:14؛ حز 32:7؛ عا 8:9؛ يوء 3 :3-4؛ 4 :15؛ صعود موسى 10 :4 - 5). هي تدلّ على أن للمجيء بُعدًا مسكونيًا، وأنه يضع حدًا للزمن الحاضر المطبوع بالخطيئة، وأنه يقيم نظامًا جديدًا للأمور، يقيم خلقًا جديدًا. أُدركت هذه الكوارث على أنها عقاب من الله، فأحلّت الرعب لدى البشر. ولكن سيتحرّك هذا الرعب أيضًا، حسب مت (رج زك 12 :10-11)، بظهور علامة ابن الانسان. فأمام ظهور المسيح المجيد، يكتشف الخطأة بوضوح خطأهم والدينونة التي يستحقّون.

ثانيًا : الرسائل البولسيّة. تمثّل موضوعُ باروسيا تمثّلاً واسعًا عند بولس الرسول. ورافقه بشكل تدريجي ولا سيّما في رسائل الأسر (التي تشكّل حالة متأخّرة لفكر بولس، أو هي لم تُكتب بيده) إبراز لمشاركة المؤمن والكنيسة (الآن) في حياة المسيح القائم من الموت. غير أن الرؤية البولسيّة للمجيء، ليست موضوع طرح منهجيّ. بل تظهر حسب الظروف، كجواب على صعوبات ملموسة (1كور 15 :22-58؛ 1 (تس 4:13-18؛ تس 5:1-10؛ 2تس 2:1-12)، أو في إطار تحريض على السهر الروحيّ (رو 13 :11-12؛ 2كور 5 :10؛ 1تس 5:1-2)، وعلى الاحتمال المتبادل (1كور 4 :5)، وعلى التجرّد (1كور 7:29-30) والفرح (فل 4 :4) والثبات (1تم 6:13-14). وهكذا يُذكر المجيء كموضوع انتظار ورجاء مسيحيّ (1كو(ر 1:7-8؛ ر 11:26؛ 16 :22؛ كو 3 :4؛ فل 1 :6؛ 2تم 4:8؛ تي 2:1-2).

في 1تس، يسيطر منظور المجيء القريب. فمع تذكيرات ظرفيّة لها مدلولها (1 :9؛ 3 :13)، يدلّ الجواب الذي يعطيه بولس على قلق حرّكه موت بعض المؤمنين قبل المجيء (1تس 4:13-18). ان انتظار المجيء كان حيًا في الكنائس الفتيّة : هل يُحرم الراقدون من هذا العيد العظيم، عيد مجيء الربّ؟ وترتّب تعليمُ الرسول بالنسبة إلى السؤال المطروح : سينضمّ جميع المؤمنين إلى موكب النصر. فالذين ماتوا في المسيح يقومون أولاً. ونلاحظ أن بولس يعبّر عن فكره هنا وكأن عددًا كبيرًا من الجماعة (وهو أيضًا) سيكونون بعدُ أحياء عند ذاك المجيء (1تس 4:15، 17). وسنجد هذا الرأي أيضًا في 1كور 15 :51-52 في تمثّل المجيء. عادت 1تس 4:15-17 إلى رمزيّة التيوفانيّات في العهد القديم، إلى السيناريو الهلنستي في الدخول الفرِح إلى المدينة في موكب ملكيّ. كل هذا له مدلوله : فهو يشدّد على الوضع المتسامي للقائم من الموت وتولّيه الملك. مقابل هذا، قدّمت 1تس 5:2-3 يوم الربّ كدمار وضيق وظهور غضب للذين يعيشون في الظلام.

وإن يكن هناك جدال حول نسبة 2تس إلى بولس، وحول كتابتها، فهذه الرسالة هي أيضًا صدى لصبر اسكاتولوجيّ ما زال حاضرًا. فالكاتب يردّ على الذين يتركون العمل ويجعلون البلبلة في الجماعة، لأنهم ينتظرون بحرارةٍ المجيءَ القريب. وسيعود الإرشاد لا إلى فجاءة الظهور الأخير، بل إلى العلامات التي تعلن هذا المجيء : الحجود، ظهور رجل الإثم (2تس 2:3، رجاسة الخراب، انتيكرست). والفكرة التي تقول إن باروسيا سيسبقها الحجود العظيم، كانت موضوعًا متواتراً في العالم الجليانيّ اليهوديّ ((1أخن 91:6-7؛ 1أخن 93:9؛ يوب 23:18-19). وقد استلهمت بدون شك خبرات محزنة عرفتها وقت الاضطهادات (دا 9:27؛ 11 :30، 32). ونجدها أيضًا في مت 24:9-13. فقد نكون بعض المرات أمام نفور تجاه الإيمان المسيحيّ، وتأثير التعاليم المضلّة (1تم 4:1؛ 2تم 3:1-9؛ 1يو 2:18-19). أما المجيء الذي به يسيطر رجل المعصية، فإن 2تس 2:3-10 تصوّره كتقليد دني، لمجيء الرب يسوع. في هذا السياق، صار مجيء المسيح مواجهة الانتصار والانتقام. وتشدّد 2تس 1:6-9 أيضًا على وجهة الديّان الرهيبة في المجيء، كما تتحدّث عن المصير المحفوظ للمضطهِدين.

لم تتوسّع "الرسائل الكبرى" (رو، 1كور، 2كور، غل) في موضوع المجيء الآتي. ففي سياق الهجوم على العالم اليهوديّ، عمّق بولس تعليمه عن ينبوع الخلاص، وبالتالي عن تحوُّل تمّ منذ الآن في المؤمن بفعل صليب المسيح. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، انطلق الرسول من خبرة تأخّر المجيء، فتوقّف عند الواقع الروحي الذي يقود الوجود المسيحيّ. لهذا كان الانتباه إلى الاسكاتولوجيا التي تحقّقت، لا إلى تلك التي تتحقّق في النهاية. ولكن النهاية لم تُنسَ. وهذا ما يدلّ عليه رو 13 :11-12؛ 1كور 15 :52؛ فل 4 :5؛ كو 3 :4. ولكنها لا تُذكر في إطار جلياني. وفي "رسائل الأسر" يسيطر سيناريو جديد : تمثّلُ قطيعةٍ يجعلها يومُ الربّ بين الزمن الحاضر والدهر المقبل تجاه انتشار متدرّج لجسد المسيح حتى أبعاد الكون.

في هذا الخط نذكر أع حيث نجد تأكيدًا لظهور المسيح الممجّد (أع 1:11؛ 7 :56). كما نجد رمزًا إلى مدلول الزمن الحاضر : هو زمن الرسالة الشاملة بقيادة الروح وقوّته (1 :8).

وفي عب، تتخلّص التلميحات إلى قيامة الموتى، وإلى الجزاء، من الصور الجليانيّة التقليديّة (عب 6:2؛ 9 :27-28، نجد حديثًا عن ظهور ثانٍ للمسيح، 10 :27، 37-38). لم يعد التمييز الأساسيّ بين الزمن الحاضر والدهر المقبل الذي سيقوم ساعة المجيء، بل بين نظام الحقائق السماويّة التي تُدخلنا إليها ذبيحة المسيح، والعالم المنظور الذي هو ظلّ لها.

ثالثًا : الرسائل الكاثوليكيّة. أعلن يع 5 :1-11 اقتراب مجيء الرب، وتهديدًا للمستغلّين، وعزاء وثباتًا للاخوة الذين أفقرهم استغلال الاقوياء لهم. إستعمل باروسيا هنا ( آ7-8)، فما أشارة إلى دخول الملك في الفرح، بل إلى زيارة الديّان. ظنّ بعض الشرّاح أن الكاتب لا يفكّر في الدينونة الأخيرة والشاملة، بل في عقاب زمني سيصيب اليهود الذين جاروا على أعضاء في جماعات فلسطين المسيحيّة، وذلك في خطّ نبوءات الشقاء التي أوردها العهد القديم. وإذ أرادت 1بط أن تسند إرشاد الرسول، استعادت موضوعًا تقليديًا هو موضوع اقتراب النهاية (1بط 1:5-7، 13؛ 2 :12؛ 4 :7، 13، 17؛ 5 :1، 10). توجّه الكاتب هنا إلى مؤمنين يعيشون المحنة. ومنظور وحي (لا مجيء، ابوكالبسيس لا باروسيا) الرب ومجده، هو الذي يساعدهم على تحمّل الألم والشهادة أمام المعارضين لهم.

أُلِّفت 2بط خلال النصف الأول عن القرن 2، فردّت على ارتياب وهزء يحركّهما تأخّر المجيء (3 :3). أكّد الكاتب من جديد أساس الانتظار الاسكاتولوجيّ (1 :16-17). إن زمن الله ليس زمن البشر (3 :8-10؛ رج مز 90 :4). وإذا كان المجيء لم يحصل بعد، فبالنظر إلى صبر الله الذي يريد أن يعطي كلَّ واحد إمكانيّة التوبة وتقبّل الخلاص. إستلهم الكاتب تمثّلات العهد القديم والعالم الهليني، فحدّد موقع المجيء في إطار ولادة كبرى جديدة سيعرفها الكون الذي يتنقّى في انفجار شامل (3 :1).

رابعًا : سفر الرؤيا. أراد رؤ أن يقدّم جوابًا للوضع المتأزّم الذي تعيشه الكنيسة في نهاية القرن الأول ب.م. فمتطلّبات عبادة الامبراطور واضطهاد دوميسيانس، قد كشفت الصراع الذي لا رجوع عنه، بين اعتدادات عالم خاطئ ينتهك القدسيات، وبين الاعتراف بالاله الواحد الحقّ ومسيحه الذي تشهد له الكنيسة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، كانت المحنة وخبرة الزمن الطويل، سببًا للتراخي واليأس والقنوط في بعض الجماعات. أخذ الكاتب بالفنّ الأدبيّ الجليانيّ (موضوع اقتراب النهاية، علامات تعلن هذه النهاية، بداية اسكاتولوجيا وتتمّتها)، فغاص في فكر لاهوتيّ حول وضع الكنيسة، حول مدلول الصراع ومرماه حول التجارب التي يتعرّض لها المؤمنون. فانتصار المسيح (1 :15، 18؛ 19 :6)، والدينونة الأخيرة (20 :11-12)، والخليقة الجديدة (21 :1)، ومجيء أورشليم السماوية (21 :2-3)، كل هذا يشكّل أفق هذه الرؤية النبويّة، كما يُسقِط على المستقبل حقائقَ حاضرة منذ الآن في السرّ. من جهة، المجيء حاضر الآن : والمسيح الغالب يمارس منذ الآن سيادته والدينونة (1 :9-3 :22). والكنيسة تشارك منذ الآن في قيامته وفي وظيفته الملوكيّة والكهنوتيّة (1 :6؛ 7 :9-10؛ 14 :3؛ 20 :4-6). ومن جهة ثانية، هناك الانشداد الاسكاتولوجيّ وبُعد الرجاء. فالكنيسة التي تنعم بوضع سماوي وامتياز، هي بعدُ في العالم لبعض الوقت، هي شعب ما زال يتابع مسيرته، وهي عرضة لضيقات الدهر الحاضر، وتتوق أن تشعر شعور الفرح بما تعيشه اليوم في الايمان. تعال أيها الرب يسوع (22 :20 : ماراناتا : رج 1كور 16 :22؛ ديداكيه 10 :6).

خامسًا : انجيل يوحنا. رغم الظواهر المرتبطة بالفن الأدبي الذي أخذ به الانجيل الرابع، فالاسكاتولوجيا التي فيه لا تختلف في العمق عمّا في رؤ، بل هي تقدّم الوجهة التأوينيّة بشكل حذريّ. فهناك مقاطع عديدة تنسب إلى لقاء الانسان مع المسيح منذ هذه الحياة، ما تحتفظ به كتابات العهد الجديد إلى المجيء (3 :18؛ 4 :14؛ 5 :24؛ 6 :27، 35، 47، 51، 58؛ 8 :51؛ 10 :27-28؛ 11 :26؛ رج 1يو 3 :14؛ 5 :4). وهناك سمات عديدة تدلّ على المجيء، تحدّد حسب يو مجيء المسيح الأول والساعة الفصحيّة : تجلّي المجد (1 :14؛ 2 :11؛ 12 :23، 28، 32-33؛ 13 :31؛ 17 :5). الانتصار على العالم (3 :19؛ 5 :22-23؛ 12 :31). قيامة الموتى (5 :25، 28؛ 11 :25). إذا وضعنا جانبًا 16 :16، لا نجد شيئًا عن ظهور للمسيح في نهاية الأزمنة. فلا يبقى من التعابير التقليديّة سوى تلميحات إلى القيامة "في اليوم الأخير" (6 :39-40، 54). فالانتباه إلى المشاركة الحاليّة مع المسيح، جعلتنا ننسى بعض الشيء تذكّر المجيء الآتي.

(ب) زمن المجيء. إن معظم تلميحات العهد الجديد إلى المجيء وإلى نهاية الأزمنة، تقدّمهما على أنهما قريبان، على أنهما على الباب. ذاك كان يقين العديد من الجماعات المسيحيّة الأولى، بحيث فُرض على المعلّمين أن يُهدئوا روع المؤمنين حول مصير الذين ماتوا قبل المجيء (1تس 4:13-17). أن ينزعوا القلق الذي ألهمه الانتظار (2تس 4:13-18)، أن بشرحوا أو يبرّروا الزمن المتوسّط ومدى التأخّر (مر 13 :10 وز؛ أع 1:8؛ رؤ 6:10-11؛ 2بط 3:8-9). فالاعتقاد باقتراب المجيء قد ارتبط بتفسير اسكاتولوجيّ لحدث الفصح والقيامة : بقدر ما فُهمت قيامة المسيح كعمل إلهيّ يدشّن الدهر الجديد والملكوت، كان من الطبيعي أن ينتظر المؤمنون أن تكون الآن نهايةُ الزمن الحاضر مع ضيقاته. ولكن لا بدّ أن نأخذ بعين الحساب دور موضوع اقتراب النهاية في التقليد الجليانيّ أيضًا. فالإشارة إلى التتمة في النهاية، لا يمكن أن تكون تنبيهًا وتحرّك الالتزامَ الموافق، إلاّ إذا دلّت على آنيّتها. فالنبي الجلياني الذي يتوجّه إلى معاصريه، لا إلى الأجيال البعيدة، يعلن أن تعليمه ملحّ، لأن "يوم الربّ" قريب. إذن موضوع اقتراب النهاية هو جزء من الفنّ الأدبيّ الجليانيّ، لأنه يتيح للكاتب أن يجنّد طاقات المؤمنين. ويترافق هذا الموضوع عادة مع نداء إلى السهر والثبات والتوبة.

وحين نحاول أن نكتشف زمن المجيء، تقدّم لنا النصوصُ نمطين من الاشارات يتعارضان في الظاهر. من جهة، يُقال لنا أن الزمن خفيّ، لا يعرفه إلاّ الله وحده. فالابن نفسه لا يعرفه (مر 13:32؛ مت 24:36؛ أع 1:6-7). ومع هذه الفكرة نجد تأكيدًا على فجاءة المجيء الذي يأتي بغتة كاللصّ. فعلى الانسان أن يكون ساهرًا، أن يكون مستعدًا (مت 24:36-51؛ مر 13:33-37؛ لو 12 :39-40، 46؛ 1تس 5:2-3؛ 2بط 3:10؛ رؤ 3:3؛ 16 :15). ومن جهة ثانية هناك تلميح إلى علامات تعلن هذا المجيء (مر 13 :5-16 وز؛ 13 :28-29 وز؛ 2تس 2:2-4). فهذان التأكيدان اللذان يبدوان للوهلة الأولى متعارضين، يرتبطان بتعاليم عميقة لا تعارض فيها. ما يُذكر في النمط الأول من التعبير، هو أن الله سيّد التاريخ، وأن زمن التتمّة الأخيرة يرتبط بسلطانه المطلق لا بأعمال البشر. أما موضوع الفجاءة، فهو مهمّ في إطار الإرشاد (1تس 5:1-10). ويدعونا النمط الثاني من التعبير إلى قراءة الزمن الحاضر كزمن تهيئة للدينونة الاسكاتولوجيّة ولمجيء الملكوت. فعلى المؤمن، وسط التجارب والمحن، أن يكتشف "علامات الزمن"، وأن يجيب على الرجاء الذي فيه، وأن يمارس أمانته. لا يتعلّق الارشاد المسيحيّ بحسابات ملتبسة وفيها ما فيها من اصطلاحات، كما لا يتعلّق بتواريخ اسكاتولوجيّة، بل يؤسّس متطلّبات الوجود الايمانيّ على تحوّل روحيّ يتمّ في المؤمن بواسطة الحدث الفصحيّ.







الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية

God Rules.NET
Search 100+ volumes of books at one time.