الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية: مسألة (الـ) الإزائيّة


المسيحي مؤشر موسوعة إلكترونية

1) طرح المسألة. ^ أولاً : الألفاظ. نعرف الأحداث الإنجيليّة في أربعة أخبار، في أربعة أناجيل. هناك إنجيل يوحنا الذي يبدو متفرّدًا في أصالته. والأناجيل الباقية (مت، مر، لو) تبدو متقاربة جدًّا في نصوصها. لهذا سُمّيت الأناجيلَ الإزائيّة لأنّنا نستطيع أن نضع نصًّا من إنجيل إزاء نصّ من إنجيل آخر. وهكذا يُروى الحدث أو يُنقل الكلام في هذه الأناجيل الثلاثة بشكل متوازٍ.

ثانيًا : أهميّة الموضوع. حين نقابل النصوص الإزائيّة نكتشف فائدتين. الأولى، إعادة تكوين المراجع. وهكذا نستطيع أن نطرح السؤال حول الينابيع السابقة لأناجيلنا الحاليّة : فقبل هذه الأناجيل، كانت محاولات إنجيليّة (لو 1 :1) قد استندت إلى ما نقله "شهود عيان" (لو 1 :2). إنّ إعادة تكوين هذه الينابيع تقودنا إلى إدراك الطريقة التي بها عبّر الجيل المسيحيّ الأوّل عن إيمانه بيسوع.

والفائدة الثانية تتعلّق بتاريخ التدوين. فهي تساعد على إدراك العمل التدوينيّ الذي قام به الكتّاب المسؤولون عن الأناجيل القانونيّة. أعادوا حسب طريقتهم تدوين مواد وُجدت قبلهم. حوّلوا بعض الوقت المضمون الكلامي. يبقى علينا أن نتطلّع إلى كلّ إنجيليّ في أصالته لكي نفهم التعليم اللاهوتيّ الذي أراد أن ينقله إلينا.

لا يستطيع علم التأويل أن يتخلّى عن طلب حلّ متماسك ومقبول لدى الجميع، للمسألة الإزائيّة. وهو بالتالي يرفض كلّ "تكاسل" في مثل هذا البحث. فالاستنتاجات التي تنطلق من أسس غير أكيدة، تعتبر غير علميّة.

2) المعطيات. ^ أولاً : تقليد آباء الكنيسة. كان بابياس، أسقف هيرابوليس (منبج، وُلد حوالى سنة 70) يؤكّد أن مر يرتبط بكرازة بطرس، وأن مت دوّن "في لهجة أراميّة" (أوسابيوس، التاريخ الكنسي 339 :15-16). وأكّد إيريناوس أنّ مت "دوّن لدى العبرانيّين في لغتهم"، وأن مر يرتبط بكرازة بطرس، وقد دوِّن بعد موت الرسل، وأن لو يورد كرازة بولس (ضدّ الهراطقة 31 :1). واعتمد اكلمنضوس الاسكندراني على "تعليم الشيوخ القدماء" ليؤكّد أنّ الأناجيل التي وُجدت فيها سلسلة أنساب" (مت، لو) دوِّنت في البداية، وأنّ مر يرتبط بكرازة بطرس (أوسابيوس، التاريخ الكنسيّ 614 :5-7). وأخيرًا، انطلق أوريجانس من التقليد فدلّ على الأصل العبريّ لإنجيل متّى، وارتباط مر ببطرس ولو ببولس (اوسابيوس، التاريخ الكنسي 625 :4-6).

ثانيًا : ترتيب المقطوعات. (أ) الترتيب بين مت ومر. يختلف الإنجيلان حتّى مت 14:1 مر 6:14. ثمّ يتوازيان توازيًا وثيقًا في جميع الأحداث المشتركة. أما الخلاف في البدء فيُفهم، لأن مت جمع معجزات يسوع في وحدة تامّة (ف 8-9)، والجدال مع الفريسيّين (مت 11-12).

(ب) بين مر ولو. هناك تقارب بين مر 1:2-3 :19 ولو 3 :2-6 :19؛ مر 3:31-6 :46 ولو 8 :4-9 :18أ؛ مر 8:27-10 :1 ولو 9 : 18ب-51؛ مر 10:13-13 :33 ولو 18 :15-21 :36؛ مر14 :1-16 :8 ولو 22 :1-24 :9. لا نجد سوى تبديلات طفيفات في الأجزاء الأربعة الأولى على مستوى المقطوعات : إنّ دعوة التلاميذ الأولين قد أخِّر عند لوقا (لو 5 :1-11 مر 1 :16-20). وزيارة يسوع إلى بلده التي هي متأخّرة في مر 6:1-6، قد جعلها لوقا في بداية خبره (4 :16، 22، 24)، وذلك قبل أحداث كفرناحوم المذكورة في 4 :23. إنّ أقوال يسوع حول عائلته الحقيقيّة، تسبق عند مر 3:31-35 مثل الزارع. ولكنّها جاءت في لو 8 :19-21 بعد هذا المثل. وأخيرًا، إنّ تعليم يسوع حول الوصيّة العظمى (مر 12:28-34) يُوجد في لوقا في سياق مختلف (10 :25-28). ثمّ لا نجد الكثير من التوازيات في خبر الآلام، لأنّ أخبار الآلام في لو تستند إلى مراجع خاصة.

(ج) بين مت ولو. إنّ المقابلة بين ترتيب المقطوعات في لو ومت، تبدو أكثر تشعّبًا. للوهلة الأولى، لا توازيَ في المعنى الحصري. غير أننا نجد عددًا هامًا من الأحداث لا نجدها عند مر، ولكنّنا نجدها في ذات الترتيب عند لو ومت. مت 4:1-11 لو 4 :1-13؛ مت 5-7 لو 6 :29-40؛ مت 8:5-13 لو 7 :1-10؛ مت 8:19-22 لو 9 :57-60؛ مت 10:9-16 لو 10 :2-12؛ مت 11:20-24 لو 10 :13-16؛ مت 11:25-27 لو 10 :21 - 22 : مت 12:22-30 لو 11 :14-23؛ مت 12:39-42 لو 11 :29-32؛ مت 23:4-36 لو 11 :39-52؛ مت 23:37-39 لو 13 :34-35؛ مت 24:26-41 لو 17 :22-37. إنّ هذا الترتيب المشترك لا يمكن أن يكون وليد الصدفة، فيفسّر بينبوع يختلف عن مر وقد سمّاه الشرّاح : المعين (كويلي، هي كلمة المانيّة).

ثالثًا : مضمون المقطوعات. (أ) يبدو مر وسيطًا بين مت ولو. كما يتوافق مت ولو على مر. هناك توافقات سلبيّة (إغفال تفصيل نجده في مر، مثلاً، رفاق سمعان الثلاثة في مر 1 :29) وتوافقات إيجابيّة (إضافة تفصيل غائب من مر، مثلاً "من الذي ضربك" في مت 26:68 لو 22 :64؛ ق مر 14 :65). وإذا كانت التوافقات الإيجابيّة كبيرة، إلاّ أننا لا نستطيع أن نهمل التوافقات السلبيّة، لأنّها تطرح أسئلة حول عناصر خاصّة بمرقس : مثلاً الفعل سيزيتاين (تساءل) غائب ممّا يوازي مت ولو في (مر 1:27؛ مر 8:11؛ 9 :10، 14، 16؛ 12 :28. ونقول الشيء عينه عن فعلين : "تامبايستاي" و"اكتامبايستاي" (خاف، ارتعد). نجدهما في (مر 1:27؛ مر 9:15؛ 10 :24، 32؛ 16 :5، 6. والظرف "بولا" (كثير) الذي نقرأه في (مر 1:45؛ مر 3:12؛ 5 :10، 23، 38، 43؛ 6 :20، 34؛ 9 :26 :15 :3، هو غائب كليًّا في نصوص مت ولو الموازية. لا نفسّر هذه التوافقات السلبيّة كإغفالات من مت ولو، بل حسب اتجاه تدوينيّ عند مر.

(ب) خصائص كلّ إنجيليّ. إنّ المقابلة بين الإزائيّين الثلاثة، تتيح لنا أن نبرز العادات التدوينيّة لدى كلّ إنجيليّ. مثلاً يحبّ مت الانتقالات مع الظرف "توتي" (حينئذ) الذي لا نجده عند مر (هي طريقة أراميّة). ويستعمل عشر مرات فعل "أناخوراين" (اعتزل) الذي لا نجده سوى مرّة واحدة في مر 3:7. تفرّد لو فسمّى يسوع "الربّ" في مجرى خبره (13 مرة). واستعمل 21 مرّة الفعل "هيبوسترافاين" (عاد، تاب) الذي لا نجده أبدًا في مت ومر.

(ج) أخبار متشعّبة. يجب أن نلاحظ أيضًا تشعّب الأخبار الإنجيليّة. في مقطوعة اقتلاع السنابل، يبرَّر عمل التلاميذ ببرهان واحد في لو 6 :5، وببرهانين في مر 2:27-28، وبثلاثة براهين في مت 12 :5-8.

في خبر نزاع الجتسيمانيّ، ترد صلاة يسوع مرّتين في مر. أولاً في خطبة غير مباشرة (14 :35). ثانيًا في خطبة مباشرة (14 :36). أما عند مت ولو فترد مرّة واحدة وفي خطبة مباشرة (مت 26:39؛ لو 22 :42). في مر 7:2-4، الشروح المعطاة للوثنيّين حول العادات اليهوديّة هي إضافات ثانويّة في نص أولاني يدلّ عليه مت 15:1-2 ومر 7 :1-5. ونلاحظ أيضًا تشعّب مر 12:38 -40؛ ففي مت 23:5-7 ( مر 12 :38-39) نقرأ توبيخًا (حول الكبرياء) يوجّه إلى الكتبة (في صيغة اسم الفاعل). أما في مر 12:40 فنحن أمام اتهام (يجهله مت) حول الجشع والرياء. في لو 22 :1-6، نقرأ خبرًا بسيطًا حول المؤامرة على يسوع وخيانة يهوذا. أما في مر 14:3-9، فهناك إضافة ثانويّة من حدث المسح بالطيب في بيت عنيا.

(د) عبارتان عند مر بدل عبارة واحدة. نقرأ في مت 8:16 ولما جاء المساء. وفي لو 4 :40 عند غروب الشمس. أما مر 1:32 فجعل العبارتين معًا : عند المساء بعد غروب الشمس. ونقرأ في مت 8:3 عبارة يهوديّة : طهر من برصه. وفي لو 5 :13 عبارة هلينيّة زال عنه برصه. ضمّ مر 1:42 العبارتين : زال عنه البرص... وطهر. نجد هذه الظاهرة قرابة مئة مرّة في الإنجيل الثاني. وهو يفسَّر تفسيرين. الأول، حبّ التكرار عند مر. ثانيًا، أراد مر أن يضمّ التقليد القبل المتاويّ والقبل لوقاويّ في نصّه.

3) الحلول المقترحة. بدأت الحلول تقدّم منذ نهاية القرن 18 : "الإنجيل العبري الأولاني" مع لاسنغ (1778)، ومع كوب (1782) وستور (1786) اللذين رأيا في مر ينبوع مت ولو. ومع غرييشباخ (1789) الذي رأى في مت اليوناني ينبوع لو ومر. وها نحن نقدّم ثلاث نظريّات. الأولى : ارتباط متبادل ومباشر. الثانية : نظريّة الينبوعين. الثالثة : نظريّة الوثائق المتعدّدة.

أولاً : ارتباط متبادل ومباشر. (أ) مضمون هذه النظريّة. تستبعد من جهة المبدأ أيّة وثيقة بشكل فرضيّة : يجب أن يُفسَّر كل شيء بعلاقات ارتباط مباشر بين الأناجيل القانونيّة الحاليّة. في هذه الظروف هناك قاعدة لا يمكن أن نحيد عنها : الإنجيل الذي كُتب أولاً هو بالضرورة ينبوع الثاني. والأول والثاني هما ينبوع الثالث. هناك ست رسمات ممكنة تفترض كلّها علاقة مباشرة بين مت ولو في اتجاه أو في آخر. واليوم، هناك دفاع عن رسمة غريشباخ : مت اليوناني هو الإنجيل الأولاني. وإن لو قد حوّل مت. أما مر فدمج سابقيه وأوجزهما.

(ب) تقييم هذه النظريّة. ما الفائدة العلميّة لهذا الاتجاه؟ بل نتساءل لماذا تلقى بعدُ نظريةُ غريشباخ بعضَ النجاح؟ فإنجيل متّى اليوناني ليس أعتق تعبير عن التعليم الإنجيلي. إنّه ثمرة متأخّرة لتاريخ أدبيّ متشعّب. إنه صدى تبشير الوثنيّين، كما هو يشير إلى العلاقات الصعبة بين المسيحيّة واليهوديّة الرابينيّة بعد كارثة سنة 70. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا يُعقل أن يرتبط لو بما في مت، بعد أن ترك منه أقسامًا هامة (إنجيل الطفولة، الأمثال، أخبار الظهورات)، وحوّل الترتيب الذي قدّمه الإنجيل الأول (مثلاً، شتّت لو مادة عظة الجبل في مت 5-7، في وحدات صغيرة وعديدة نجدها في لو 6؛ 11؛ 13؛ 14؛ 16. وأخيرًا لا نستطيع القول إنّ مر مزج مت ولو فاستبعد من خبره كل هذا الغنى الكبير : أناجيل الطفولة، صلاة الربّ، أمثال الرحمة، أخبار ظهورات القائم من الموت.

ثانيًا : نظريّة الينبوعين. (أ) مضمون هذه النظريّة. تؤكّد هذه النظريّة في المعنى الحصريّ أنّ مت ولو يرتبطان بإنجيل مرقس (كما نعرفه اليوم) من جهة، وبينبوع آخر افتراضيّ هو المعين أو كويلي، حيث استقى مت ولو أقوال يسوع وأعماله ولكن جهلها مر. حين ندرس ترتيب المقطوعات، نقول إنّ مت ولو قد دمجا كلّ بطريقته أمورًا إنجيليّة نجدها في مر (التقليد المثلّث الذي نجده في مت، مر، لو)، وأخرى لا نجدها في مر (التقليد المثنّى الذي نجده في مت، لو). بالإضافة إلى ذلك، نلاحظ عند مت ولو عددًا من التكرارات : فالقول الواحد نجده مرتين عند مت ولو : مرّة أولى في سياق يتوازى مع سياق مر. ومرّة ثانية في سياق لا مرقسيّ (مر 8 :34 مت 16:24 لو 9 :23 : مت 10:38 لو 14 :27).

(ب) تقييم هذه النظريّة. جاءت الاعتراضات عديدة على هذه النظريّة. فارتباط مت بإنجيل مرقس اليوناني، لا يتوافق مع ما يقوله التقليد الآبائي عن الأصل العبريّ للإنجيل الأول. وارتباط لو بما في مر، يجعلنا ننكر الأصل البولسيّ للإنجيل الثالث (ولكن هل ننسى تأثير بولس على مرقس أيضًا؟). والتوافقات بين مت ولو ضد مر، تبقى مسألة عويصة. ولا نستطيع أيضًا أن نبرّر مت تبريرًا كافيًا حين أغفل (مر 1:23-27؛ مر 4:26-29؛ 5 :18-20؛ 7 :32-37؛ 8 :22-26؛ 9 :38-40؛ 9 : 49-50؛ 12 :32-34؛ 12 :40-44، ولا أن نبرّر لو حين أغفل مقاطع مهمّة من مر (نجد في مر 661 آية. تقابلها في لو 350 آية. وقد غاب من لو مر 6:45-8 :26). اقترح بعضهم تجاه هذه النظريّة الناجحة، وجود مر أولاني سابق لمر القانونيّ الذي به يرتبط مت ولو، أو مر لاحق لمر اليونانيّ. ولكن يستحيل علينا أن نعيد تكوين هذه الوثيقة.

ثالثًا : نظريّة الوثائق المتعدّدة. (أ) مضمون هذه النظريّة. منذ لاسنغ وجدت هذه النظريّة من يدافع عنها، حتى بوامار في القرن العشرين. تعير هذه النظريّة الانتباه إلى تشعّب النصوص وإلى الميزات الأسلوبيّة في كلّ إنجيل. وهي ترى محاولات إنجيليّة قديمة جدًّا (أ، ب، ج، م) تجمّعت في مرحلة تدوينيّة مع مت متوسط، ومر متوسط، ولو أولاني. في مرحلة ثالثة، نصل إلى أناجيلنا الحاليّة. فإنّ مر (كما يقول بوامار) هو نتيجة تاريخ أدبي طويل : فهو عبر كل هذا يرتبط بأربع وثائق أولانية : أ، ب، ج، م).

(ب) تقييم هذه النظرية. من جهة، لم تعالج هذه النظريّة مسألة ترتيب المقطوعات في الوثائق. ومن جهة ثانية، وجود الوثيقة م ( المين) التي تبدو متماسكة في نظريّة الينبوعين، لا يجد ما يبرّره في الرسمة التي يقدّمها بوامار. وأخيرًا، إن كان تكوين الأناجيل قضيّة متشعّبة، فهذا يعني أنّ هناك موضوعًا لطرح عدد من الفرضيّات. ولكننا نكتفي بهذا القدر تاركين للباحث أن يعود إلى الكتب المتعدّدة في هذا المضمار.







الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية

God Rules.NET
Search 100+ volumes of books at one time.